لا أظن أن فينا من ينكر أننا نواجه أزمة خانقة تأخذ بتلابيبنا وتحاصرنا من جميع الجهات وتلحق بنا فى جميع المجالات.
لا أظن أن فينا من ينكر أننا نواجه أزمة خانقة تأخذ بتلابيبنا وتحاصرنا من جميع الجهات وتلحق بنا فى جميع المجالات.
فى المجال السياسى نحن لا نستطيع أن نحول الديمقراطية من شعار مرفوع إلى نظام مستقر، لأننا لا نملك الأدوات التى تمكننا من ذلك، وهى الأحزاب والنقابات والجمعيات والمنابر الثقافية التى تنشر الوعى وتحدد الأهداف وتضع البرامج وتحول المواطنين من أفراد مختلفين إلى جماعة وطنية، ومن ردود أفعال متباينة متناثرة إلى رأى عام يتحاور مع نفسه ومع السلطة ويتعلم من تجاربه ويحول الديمقراطية من كلمة أو شكل أو ديكور إلى واقع حى وإنجازات فعلية ملموسة يتضح بها الفرق بين حكم الديمقراطية وحكم الاستبداد.
بل ان مشكلتنا مع الديمقراطية أكبر واعقد من أن تكون محصورة فى غياب أدواتها. وانما تتجاوز غياب هذه الأدوات التى تتحقق بها إلى حضور الأدوات المعادية التى تحارب الديمقراطية وتتآمر عليها وعلى من يناضلون فى سبيلها، وهى هذه الأحزاب المسوخ التى رباها الطغيان وأفسح لها المجال ليخوفنا بها ويخيرنا بين أن نخضع له أو نخضع لها، ثم أطلقها بعد الثورة علينا لتكفرنا وتكفر الديمقراطية، لأن الديمقراطية هى حكم الشعب.
والحكم والسلطة السياسية فى نظر هذه الأحزاب لله، أى لها. لأنها هى التى تنوب عن الله وتتحدث باسمه. فهى بهذا باقية فى السلطة لا تتغير ولا تتبدل ولا تخضع لمراقبة أو محاسبة، ولم يكن غريبا أن تتمكن هذه الأحزاب بعد ثورة يناير التى جعلت الديمقراطية هدفا من أهدافها ـ لم يكن غريبا أن تتمكن هذه الأحزاب المسوخ للسلطة بأصوات الناخبين الذين لا نستطيع أن نشك فى كراهيتهم للطغيان، ولم يكن غريبا بعد ثورة يونيو أن تتدنى نسبة الذين أدلوا بأصواتهم فى الانتخابات البرلمانية فلا تكاد تصل إلى ربع من لهم الحق فى التصويت. فإذا كانت كراهيتنا للطغيان لاشك فيها فالشك وارد فى اخلاص الكثيرين للديمقراطية وفى معرفتهم لاستحقاقها. لأن الديمقراطية معرفة أو ثقافة قبل أن تكون سياسة، والأزمة التى نواجهها فى السياسة نواجهها فى الثقافة السائدة التى ورثناها عن العصور الوسطى حيث الطغيان نظام شامل سائد فى كل المجالات وفى كل العلاقات. فالحاكم طاغية، والمالك طاغية، ورب الأسرة طاغية.
وأقسى ما كنا نواجهه فى هذا الطغيان الشامل المركب وما لم نزل نواجهه إلى اليوم أنه كان مؤيدا بالدين ومختلطا به، فإذا كان الدين بتفسيراته التى فرضها عليه فقهاء العصور الوسطى هو المصدر الأول لثقافة الجماهير العريضة التى لاتزال تتخبط فى ظلمات الأمية، وإذا كانت هذه الجماهير العريضة هى المادة الأولى التى تتشكل بها الديمقراطية وهى الأساس الذى تقوم عليه فباستطاعتنا أن نفهم الأخطار التى تتعرض لها الحريات فى بلادنا، الخطر المتمثل فى الخلط بين الدين والدولة والعمل الدائب على تديين النشاط العام والخاص فى كل المجالات، والخطر المتمثل فى استعداد الجماهير أو قطاعات واسعة منها للتضحية بحقوقها السياسية مقابل رشوة مادية أو مكسب عاجل أو شعار خادع يلوح به الطغاة، فضلا عن تراجع دور النخبة المثقفة التى فقدت ما كان لها من سلطة أخلاقية ورصيد شعبى نتيجة للضربات العنيفة والطعنات القاتلة التى وجهت للكثيرين من أجهزة السلطة ومن الجماعات المتطرفة، وللرشاوى التى أفسدت غيرهم وحولتهم إلى شهود زور فى مناخ أصبح معاديا للعقل والعلم والإبداع مستعدا لاحتضان الأدعياء والمأجورين بعد أن أصبح معاديا للحريات عامة وخاصة لحرية التفكير والتعبير التى لا تستطيع الثقافة أن تزدهر فى غيابها، ويكفى أن نقارن بين ما ننتجه الآن فى أى مجال من مجالات الأدب والفن وما كنا نتجه من قبل، بل يكفى أن نقارن بين مستوى التعليم فى مدارسنا وجامعاتنا فى العقود الأخيرة ومستواه قبلها لندرك أن خسارتنا فى الثقافة لا تقدر ولا تعوض، لأننا حين نخسر الثقافة نخسر كل ما نحتاج فيه للثقافة.
فى المجتمع، تتراجع سلطة القانون، وتستيقظ النعرات الطائفية والقبلية والعشائر من جديد. وتخسر المرأة المصرية ما ربحته على ايدى قاسم أمين، وهدى شعراوي، وأحمد لطفى السيد، ودرية شفيق، ولسنا فى حاجة لمن يذكرنا بأزمتنا فى الاقتصاد، وإنما نحتاج لمن يكشف لنا عن أسبابها ويدلنا على طريق الخروج منها، أى نحتاج للثقافة.
نعرف بالطبع أعراض هذه الأزمة ونكتوى بنارها، ارتفاع الأسعار، وانهيار قيمة الجنيه المصرى فى مقابل العملات الأجنبية، والديون التى يبدو كأنها أصبحت الحل الوحيد، وكأننا لم نعد نفكر فى مكافحة الفساد، واستغلال طاقاتنا المهدرة، ومضاعفة الإنتاج وتحديث وسائله وأدواته، لأن التفكير فى هذه المسائل يقودنا للتفكير فى غيرها.
نحن لا نستطيع مكافحة الفساد إلا إذا كنا نستطيع أن نراقب المسئولين ونحاسبهم ونعاقبهم ونستبدل بهم غيرهم، باختصار الديمقراطية الحقيقية، لا الصورية ولا التمثيلية هى طريقنا الوحيد لمكافحة الفساد.
ونحن لا نستطيع استغلال الطاقات المهدرة ومضاعفة الإنتاج وتحديثه إلا بالعلم، ووضع الخطط على أسس صحيحة، وافساح المجال أمام الكفاءات الحقيقية، والانتفاع بتجارب الآخرين، وهنا أيضا نختصر كلامنا فنقول إن الثقافة بكل صورها ومستوياتها ابتداء مما يتعلمه الأطفال فى المدرسة الابتدائية إلى ما تقدمه دار الأوبرا هى طريقنا لتحديث الإنتاج ومضاعفته.
فإذا كانت الأزمة السياسية لا تنفرج إلا بالديمقراطية، وإذا كانت الديمقراطية لا تتحقق إلا بتحديد الفكر الديني، وإذا كان الفكر الدينى لا يتجدد إلا بالاجتهاد واعمال العقل واحترام الديمقراطية وحقوق الإنسان، وإذا كان هذا كله لا يتحقق إلا بثقافة جديدة نخرج بها من ثقافة العصور الوسطى ونبرأ بها من أمراضها ونأخذ مكاننا فى هذه العصور الحديثة فنحن فى حاجة إلى برنامج شامل نصحح به أوضاعنا المتردية فى جميع مجالات الحياة. فى السياسة، والمجتمع، والاقتصاد، والدين، والتعليم، والثقافة.
المسكنات الآن لا تنفع فى شيء، والحلول الجزئية عبث، والحل الوحيد الصحيح هو هذا البرنامج الشامل الذى نطوى به صفحة الماضى ونبدأ به الطريق إلى المستقبل.
نحن باختصار فى حاجة إلى نهضة جديدة نستأنف بها النهضة التى بدأناها فى القرن التاسع عشر وانجزنا فيها الكثير ثم هدمنا ما بنيناه وعدنا إلى ما كنا فيه قبل أن نفتح أعيننا على العصور الحديثة، ونحن لن ننجح فى استئناف النهضة واستكمالها إلا إذا راجعنا تاريخنا وحاسبنا أنفسنا وعرفنا فيم أصبنا وفيم أخطأنا، ونحن فى هذا نحتاج للثقافة، ونحتاج للشجاعة، ونحتاج للضمير!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة