في حديثي عن «المجتمع الإنساني بين الأمر والخطر» وهو عنوان مقالي في هذه الصفحة (17 نيسان / أبريل الماضي)
في حديثي عن «المجتمع الإنساني بين الأمر والخطر» وهو عنوان مقالي في هذه الصفحة (17 نيسان / أبريل الماضي)، وبعد أن حللت مختلف الأخطار السائدة الآن في المجتمع العالمي، نتيجة تزايد موجات العولمة بجوانبها المتعددة، ختمت الحديث بفقرة مهمة هي مفتاح موضوعي اليوم.
قلت «إنه إذا أردنا أن نركز الحديث على أحد أهم مصادر الأخطار في العالم المعاصر، فيمكن القول إنه اتساع دائرة اللامساواة في العالم، والتزايد العميق في الفجوة بين الأغنياء والفقراء في كل المجتمعات الإنسانية من ناحية، وزيادة معدلات البطالة بين الشباب، خصوصاً في المجتمعات النامية من ناحية أخرى».
وأريد اليوم أن أتحدث عن ظاهرة اللامساواة في المجتمع العالمي المعاصر.
أعترف منذ البداية أن هذا الموضوع بالغ التعقيد، لأنه يتضمن مشكلات تاريخية وسياسية واقتصادية واجتماعية متعددة. ولعل أبرز المشكلات التاريخية التي يثيرها الموضوع هو تعقب المراحل التي مر بها النظام الرأسمالي في التطبيق، خصوصاً في صراعه العنيف مع النظام الشيوعي المنافس.
ونعرف من نشأة وتطور النظرية الاجتماعية الحديثة أنه نشأ صراع فكري عنيف بين نظريتين هما نظرية الإصلاح ونظرية الثورة. أما نظرية إصلاح النظام الرأسمالي، بعدما برزت سيئاته للوجود خصوصاً في مجال تشغيل الأحداث والفساد والاستغلال الطبقي من قبل فئة الرأسماليين لطبقة العمال الكادحين، فقد انبرى علماء كبار أبرزهم الفرنسي دوركايم والألماني ماكس ﭭيبر والإيطالي باريتو للدفاع عن النظام الرأسمالي والدعوة إلى إصلاحه لتلافي سلبياته.
وقد برزت في هذا المجال نظرية مؤسس علم الاجتماع إميل دوركايم التي نشرها في مقدمة الطبقة الثالثة من كتابه الشهير «تقسيم العمل الاجتماعي»، ودعا فيها إلى تكوين ما أطلق عليه «جماعات مهنية» مكونة من ممثلي الحكومة وممثلي رجال الأعمال وممثلي العمال للوصول إلى حلول وسط لحل مشكلات النظام الرأسمالي.
وعلى عكس نظرية «الإصلاح» برزت نظرية «الثورة» التي كان منظرها الأكبر كارل ماركس والتي دعا فيها إلى قلب النظام الرأسمالي بالكامل من خلال ثورة اشتراكية شاملة لا تبقي ولا تذر لخلق المجتمع الشيوعي الذي ستتحقق فيه المساواة للمرة الأولى في تاريخ البشرية!
وسرعان ما تحول هذا الصراع الفكري الحاد بين أنصار «الإصلاح» و»الثورة» إلى معركة سياسية بالغة الحدة والعنف، خصوصاً بعد اندلاع الثورة البلشفية عام 1917 في روسيا، بقيادة لينين الذي كان أول مرسوم ثوري يصدره هو إلغاء الملكية الخاصة!
دارت المعركة طوال القرن العشرين بين الشيوعية والرأسمالية.
وفي الوقت الذي استطاعت الرأسمالية، من دون أدنى شك، تجديد نفسها، جمدت الماركسية جموداً شديداً، وأدى تطبيقها الديكتاتوري إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتحطم كتلة الدول الاشتراكية. والواقع أن الرأسمالية بدأت تجديد نفسها منذ وقت مبكر حقاً.
ولو أردنا التحديد الدقيق لبدايته لقلنا إنه في عهد بسمارك مستشار ألمانيا الذي أدرك أن الرأسمالية في صورتها الأولى لن تستطيع الحياة، ولذلك سنّ مجموعات متنوعة من تشريعات الحماية الاجتماعية والضمان الاجتماعي للتخفيف من ويلات النظام الرأسمالي.
وكان رائداً في هذا المجال لدرجة أن باقي الدول الأوروبية لهثت وراءه ولم تستطع مجاراته إلا بعد أربعين عاماً على الأقل!
غير أنه يمكن القول إن التجديد الرأسمالي المؤسسي الحقيقي بدأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حين بدأ عهد ما أطلق عليه دولة الرعاية الاجتماعية The Welfare State حيث سنّت تشريعات متعددة تتضمن إسهام الدولة في علاج المواطنين، ومنح إعانات في حالة البطالة، إلى غير ذلك من الضمانات الاجتماعية التي خففت من حدة الصراع الطبقي.
غير أن دولة الرعاية الاجتماعية مرت بعد ذلك بأزمة نتيجة نقص التمويل، غير أن قواعدها الأساسية ما زالت باقية. إلا أن الصورة في العالم الثالث - ومن بينها دول العالم العربي- كانت مختلفة في الواقع. وذلك لأنه بعد قيام الدولة الوطنية في العالم العربي بعد الخلاص من الاستعمار الأجنبي والاحتلال، نشأت نظم رأسمالية متوحشة برعاية النظم السياسية العربية الشمولية والسلطوية، ما أدى إلى استقطاب حاد بين من يملكون ومن لا يملكون، وبروز ظاهرة اللامساواة بما تؤدي إليه عادة من صراع طبقي واحتقان سياسي.
ومن باب الأمانة العلمية، لا بد أن نستثني في هذا المجال بلدين هما مصر والعراق. فقد استطاعت ثورة 23 تموز (يوليو) 1952 بقيادة جمال عبدالناصر أن تحقق سياسة معلنة للعدالة الاجتماعية خففت إلى حد كبير من ظاهرة اللامساواة، خصوصاً بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي، والنهوض بالطبقة العمالية، والارتقاء بأحوالها، وفك الحصار عن الطبقة الوسطى التي أصبح أعضاؤها هم عماد القطاع الخاص باعتبارهم مديرين ومهندسين. أما في العراق، فقد استطاع الرئيس صدام حسين، بعد تطبيق ما أطلق عليه التنمية الانفجارية، تحقيق برامج متعددة خففت إلى حد بعيد من ظاهرة اللامساواة.
غير أنه بعد تغير النظام السياسي في مصر، خصوصاً في عهدي أنور السادات وحسني مبارك، على وجه الخصوص، عادت ظاهرة اللامساواة والتي كانت أحد الأسباب الرئيسة في انفجار ثورة 25 كانون الثاني. كما أن العراق، نتيجة الغزو الأميركي الإجرامي، تمزق نسيجه الاجتماعي وبرزت من جديد ظاهرة اللامساواة.
وهناك اتفاق بين العلماء الاجتماعيين على أن ظاهرة اللامساواة تبرز على وجه الخصوص في البلاد النامية، حيث تسود ظاهرة الفقر الشديد الذي طاول نسبة عالية من السكان (في مصر عدد من هم تحت خط الفقر 26 مليون مواطن) وتبرز في الوقت نفسه الفجوة الطبقية الكبرى والتي تتمثل في قلة من السكان تهيمن على مصادر الثروة نتيجة الفساد المعمم والتحالف الطبقي بين أهل السلطة من الشموليين والسلطويين ورجال الأعمال.
ومن هنا، بذلت المؤسسات الدولية وفي مقدمها هيئات الأمم المتحدة جهوداً لصياغة برامج تنموية متعددة للقضاء على الفقر وفق استراتيجيات متنوعة، كما أن بعض مراكز الأبحاث ومؤسسات التنمية الوطنية بذلت جهوداً في هذا السبيل، إلا أن العقبة الكبرى ليست اقتصادية بل هي سياسية في المقام الأول!
وتسري هذه القاعدة على الدول النامية وعلى الدول الغنية في الوقت نفسه.
ونعني على وجه التحديد أن خريطة توزيع القوة في المجتمع هي التي ستحدد نجاح أو فشل برامج مكافحة الفقر والقضاء النسبي على ظاهرة اللامساواة!
بعبارة أخرى، يبقى السؤال الجوهري في أي مجتمع هو من يحكم ويمسك بتقاليد القوة السياسية وبالتالي القوة الاقتصادية؟
ولو أجبنا عن هذا السؤال بطريقة علمية لاستطعنا أن نعرف أسباب الثروة المفرطة التي تتمتع بها بعض الفئات والطبقات الاجتماعية من ناحية، وأسباب الفقر الشديد الذي ترسف فيه، عادة، نسبة كبيرة من السكان.
ولنأخذ، على سبيل المثال، المجتمع الأميركي الذي قدم نفسه إلى العالم باعتباره النموذج الأمثل لمجتمع المساواة والفرصة المتاحة لأي مواطن لكي يكون ثرياً!
لقد قام عالم الاجتماع الراديكالي الأميركي المعروف «س. د. ميلز» بنشر كتاب بالغ الأهمية عنوانه «نخبة القوة» The power elite.
وحلل فيه ميلز خريطة توزيع القوة في المجتمع على أساس أن من يملكون مقاليد الأمور السياسية في البلاد، وبالتالي يهيمنون على الثروة وطرق اكتسابها، يتوزعون على ثلاث فئات هي: الجنرالات الذين يمثلون المؤسسة العسكرية، والسياسيين المحترفين (مثل أعضاء الكونغرس)، ورجال الأعمال.
وإذا كانت الفكرة الإيجابية عن «المساواة» في المجتمع الأميركي عاشت طويلاً، إلا أنها سقطت سقوطاً مدوياً عام 2008 حين اندلعت نار الأزمة المالية الكبرى نتيجة جشع البنوك والشركات الرأسمالية التي أغرت المواطنين بالاقتراض السهل المفتوح، ثم سرعان ما ارتفع سعر الفائدة إلى مستويات عالية، أدت إلى طرد ملايين المواطنين من بيوتهم التي اشتروها بالقروض بعد أن عجزوا عن السداد!
وإذا كان ميلز قد اتهم من قبل المحافظين في زمانه بأنه مفكر يساري متطرف فها هو دونالد ترامب البليونير الذي رشح نفسه لرئاسة أميركا يتباهى بثروته ويعلن أنه سيحكم أميركا مباشرة بعد أن كان يحكمها هو وزملاؤه من أصحاب الملايين من وراء ستار!
ألم أقل لكم أن ظاهرة اللامساواة تحتاج إلى تحليلات متعددة تاريخية وسياسية واقتصادية؟ في المرة المقبلة نواصل حديثنا إن شاء الله.
نقلاً عن "الحياة"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة