وضع روسيا لا يسمح بدخولها "الحرب العالمية الثالثة"
إسقاط "السوخوي" عقَّد المعادلة الروسية بالمنطقة
فرص دخول روسيا حربًا مباشرة في الشرق الأوسط قد يحولها لـ"حرب عالمية ثالثة"، لا تستطيع موسكو بوضعها الاقتصادي الاستمرار فيها.
رغم إعلان روسيا رسميًّا أنها لن تشن حربًا على تركيا بعد إسقاط الأخيرة طائرة حربية لموسكو في سوريا، إلا أن العلاقات بين البلدين تشهد توترًا وتصاعدًا في الحرب الكلامية، بما يعني أن باب الحرب لم يغلق تمامًا، وأن نذر المواجهة بين الجانبين عسكريًّا لا تزال تلوح في الأفق مع استمرار روسيا في الحشد العسكري في سوريا ونشرها صواريخ "إس 400" قُرب الحدود التركية.
وبعيدًا عن التصريحات النارية والمتبادلة بين الطرفين، تبقى دفاتر حسابات المواجهة بين الجانبين معقدة، وسط أسئلة كثيرة مطروحة بينها: هل روسيا في وضع يسمح لها بدخول حرب في الشرق الأوسط؟ وإذا دخلت روسيا تلك الحرب، ما المكاسب التي ستجنيها روسيا من ذلك التدخل؟ هل هي القضاء على بؤر الإرهاب؟ أم فرض الهيمنة الروسية في المنطقة بعد الانسحاب التدريجي للولايات المتحدة من المنطقة بعد حربها في العراق؟
وتُعد روسيا ثاني أكبر مصدر للسلاح في العالم، مما جعلها تتمتع بعلاقات جيدة جدًّا مع معظم الدول في منطقة الشرق الأوسط، وبالأخص نظام الأسد في سوريا، الذي دافعت عنه في بداية الصراع السوري.
ويتمتَّع رئيسها، فلاديمير بوتين، بشعبية كبيرة في روسيا بسبب طريقته غير التقليدية في حل الأمور والتي يصفها البعض بـ"العنيفة" مما أكسبه الاهتمام الدولي؛ حيث إن شعبيته زادت مع إعلانه أنه يريد استعادة أمجاد روسيا كدولة عظمى، وفي نفس الوقت سحق أية معارضة، سواء كانت محلية بتهميش واغتيال المعارضين أو دولية بفرض السيطرة على الموقف بشكل سريع كما حدث في أوكرانيا. لكن التحديات التي تواجهها روسيا داخليًّا وخارجيًّا تشكك في إمكانية روسيا استعادة وضعها السابق كقوة عظمى.
واقتصاديًّا، تُعاني روسيا من انخفاض أسعار النفط العالمية والتي يتوقع أن تؤثر في الناتج المحلي لينخفض إلى 3.8% بحلول نهاية العام الحالي. بالإضافة إلى ارتفاع نسبة التضخم التي أدت إلى انخفاض مستوى الأجور، والسياسية المالية المتشددة التي أدت إلى ضعف مناخ الأعمال، وبالتالي انخفاض مستويات الاستثمار (سواء داخليًّا أو خارجيًّا).
ويتوقَّع أن ينخفض الناتج المحلي بنسبة 0.5% والتي سوف تؤدي إلى خفض الإنفاق العام المتوقع لـ2016 إلى 2018 للمحافظة على نسبة عجز الميزانية ومنعها من التزايد في ظل نسبة نمو لا تتعدى 2% سنويًّا.
ورغم أنها تُعدُّ من أكبر مصدري النفط في العالم –بنحو 10.6 مليون برميل يوميًّا واحتياطي يبلغ 80 مليار برميل يوميًّا- لكن هذا لا يبدو أنه يساعد الاقتصاد الروسي كمبيعاتها العالمية لأنظمة التسليح؛ حيث إنها مسؤولة عن أكثر من 58% من صادرات السلاح العالمية بقيمة 15.5 مليار دولار سنويًّا.
وعسكريًّا، تُعد روسيا من أكبر الجيوش في العالم بعد الصين، بـ 770 ألف جندي في الخدمة وأكثر من 2.5 مليون فرد احتياطي. وتبلغ ميزانية الدفاع الروسية 60.4 مليار دولار سنويًّا، بالإضافة إلى أكثر من 61 ألف نظم قتالية برية (دبابات، مدافع، أنظمة صواريخ) وأكثر من 3400 طائرة حربية (بالإضافة إلى 1120 هليكوبتر حربية) و352 قطعة بحرية (تشمل 55 غواصة وحاملة طائرات)، ونظم الصواريخ النووية العابرة للقارات (ICBM).
وبالنظر إلى تلك المعطيات، فإن روسيا تتمتع بثقل عسكري عالمي يسمح لها بفرض هيمنتها، ولو بشكل جزئي، عالميًّا. وقد اكتسبت روسيا احترامًا دوليًّا بعد وساطتها في مفاوضات الملف النووي الإيراني لتوصل إلى اتفاق مجموعة 5+1 والذي تبلور في اتفاق أشرفت عليه روسيا.
وسياسيًّا، تحاول روسيا فرض تأثيرها على منطقة الشرق الأوسط، وقد نجحت في ذلك مع إيران، وموقفها المؤيد لنظام الأسد. لكن مع قيام تنظيم داعش وتهديداته المباشرة للتوازن في المنطقة -خاصة بعد الهجمات التي تلت القصف الروسي لمواقع داعش التي أدت إلى سقوط طائرة محملة بأكثر من 244 راكبًا روسيًّا وقيام التنظيم بالهجوم على باريس وخلق حالة من الفزع في أوروبا- أصبح الوجود الروسي كثيفًا لا سيما بعد ظهور العديد من التقارير التي تؤكد وجود وحدات وقوات روسية خاصة على الأراضي السورية تدعم نظام الأسد ضد معارضيه وفي نفس الوقت يعمل سلاح الجو الروسي على دعم القوات البرية وقصف مواقع داعش.
ولكن بعد إسقاط الطائرة الروسية بواسطة سلاح الجو التركي، أصبحت المعادلة الروسية في المنطقة أكثر تعقيدًا؛ حيث أصبحت بين الحفاظ على الهيبة الروسية في المنطقة، ودعم حلفائها في الحرب السورية، وعدم الدخول في حرب ثانوية مع تركيا والتي سوف تفتح المجال لتدخل حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبالتالي انهيار التوازن الهش في المنطقة بأكملها.
فالرأي العام الروسي بالإضافة إلى مؤسسة الدفاع الروسية، يؤيدون القيام بعمل عسكري ضد تركيا، لكن بالنظر إلى الوضع كاملًا، فإن أي عمل عسكري ضد تركيا يُعدُّ هجومًا على أوروبا والناتو، بالإضافة إلى أن الاقتصاد الروسي في أدنى حالاته، وأن أي حرب ستؤثر حتمًا على الاقتصاد بشكل مباشر، وبالتالي هناك شك من قدرة روسيا في الاستمرار في الحرب على الأجل الطويل. ولذلك تلعب الدبلوماسية الروسية دورًا كبيرًا في نزع فتيل التوتر القائم بين روسيا وتركيا -وتظهر في تصريحات كلا البلدين التي تخلو من أية نية للقيام بعمل عسكري (رغم نشر روسيا أنظمة صواريخها على الحدود التركية-السورية كنوع من الردع) واكتفت بوقف الرحلات السياحية إلى تركيا وتخفيض حجم التجارة الخارجية.
وختامًا، فإن فرص دخول روسيا حربًا مباشرة في الشرق الأوسط ضعيفة، لكن ليست منعدمة، وتعتمد كليًّا على إذا ما نجحت الدبلوماسية بين تركيا وروسيا في نزع التوتر القائم بعد حادث المقاتلة الروسية "سوخوي 24" .
لكن تبعات تلك الحرب على المنطقة بأكملها وروسيا نفسها كبيرة.
حيث إذا قامت تلك الحرب، فالتوازن الهش الذي قام بعد الربيع العربي سينهار تمامًا، وستتدخل أطراف عدة، منها أوروبا، في تلك الحرب مما ستحولها إلى حرب عالمية ثالثة. وبالنسبة لروسيا، رغم أن وضعها العسكري قوي بالمقارنة بوضعها الاقتصادي، لكن هذا لا يمنع أن التأثير الاقتصادي لتلك الحرب قد ينهك روسيا بشكل قد لا تستطيع معه أن تكمل تلك الحرب على المدى الطويل.