صلاح عبد الصبور.. الكلمة "حياة" الكلمة "موت"
85 عاما على ميلاد الشاعر الكبير صلاح عبد الصبور الذي لا يزال إبداعه يتألق على جبين الشعر العربي قيمة متجددة وأصالة عابرة للأجيال
الشاعر وحده ضمير هذا الكون؛ مسبار الكشف عن جوهر الإنسان، يحمل صخرته على كتفه ويعاود تسلق الجبل في رحلة سيزيفية لا نهائية؛ تحقيقا لحلم "اعرف نفسك".. هكذا هم الشعراء الكبار الأفذاذ؛ الذين لا تنتهي حيواتهم بإعلان وفاتهم؛ فالشعر يبقى، وطاقة الإبداع تتجدد، والمعاني تتولد. وإذا كان أحمد شوقي قد توج أميرا للشعر في صورته الكلاسيكية في ثلاثينيات القرن الماضي؛ فإن صلاح عبد الصبور ودونما حاجة إلى تتويج يعد كبير شعراء النصف الثاني من القرن ذاته؛ الشاعر الذي انتقل بالشعر العربي نقلات كبرى؛ صياغة وفكرا، إيقاعا ومعاني؛ وكان أبا للمسرحية الشعرية في ثوبها الحديث والأخير في الثقافة العربية برصيد خمس مسرحيات عدت الأهم والأبرز في تاريخ مسرحنا الشعري.
في ذكرى ميلاده التي تحل في الثالث من مايو من كل عام، يبدو حضور صلاح عبد الصبور قويا لم يشحب بين رواد الشعر ومحبيه (على الرغم من انحسار دوائر التلقي ومحدودية الاستجابات القرائية للشعر عموما مقارنة بالرواية مثلا)، ويبدو استدعاء شعره ورؤاه الجمالية "ضرورة" أكثر من كونها هدأة جمالية وواحة إبداعية.. ظل صلاح عبد الصبور طيلة حياته مثالا للشاعر الحكيم المحزون، الشاعر الذي استوعب تراثا هائلا من الإبداع الشعري، عالميا وعربيا، واستطاع أن ينفذ إلى روح هذا الفن وجوهره، كان عبد الصبور "مثقفاً كبيراً بكل معنى الكلمة، ينطوي على رغبة متأصلة في المعرفة التي لا نهاية لها أو حد، وقد ساعدته معرفته الكاملة باللغة الإنجليزية، وإمكان القراءة بالفرنسية على الاطلاع على أصول الفكر العالمي وفروعه".
تستدعي تجربة صلاح عبد الصبور الفذة إشكالية التكوين المعرفي والجمالي لشعراء هذا العصر (مثله في ذلك مثل نجيب محفوظ شيخ الرواية العربية الحديثة ومؤصلها الأكبر) إذ قامت تجربته كلها على ما سماه نقادٌ "التمثل" الجمالي والإبداعي للتراث الشعري الإنساني السابق عليه؛ استطاع هضم هذا الإبداع بوعي وتذوق، ومن ثم عندما بدأ يكتب شعره ويخوض غمار مغامرته الإبداعية برزت مواهبه الإبداعية والفكرية وبزغ اسم الشاعر الذي سيصير أكبر وأهم شعراء العربية بلا جدال طيلة عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.
كان الميلاد في الثالث من مايو من العام 1931، وتوفي في 13 أغسطس عام 1981 بعد سهرة مشؤومة سمع فيها ما لم تتحمله روحه ولا وجدانه فسقط ميتا بقذائف كلمات وحراب اتهامات وخناجر أفكار لا تقل في أصوليتها عن أصولية التيارات الدينية. سجل عبد الصبور في كتابه البديع الرائق «حياتي في الشعر» ما يجوز أن نطلق عليه "سيرة شاعر"، لكنها سيرة لا تُعنى بوقائع الميلاد وتواريخ الأحداث إلا بالقدر الذي يضيء مسيرة الشاعر والشعر؛ اللحظات التي تفتحت فيها الروح وانتشى فيها الوجدان وتوهج العقل حينما أدرك أن مضروب بفن الشعر، وأن حياته مرهونة بل منذورة لهذا الفن.
وخلال سنواته الخمسين؛ نصف قرن عاشها، أخرج صلاح عبد الصبور ستة دواوين شعرية هي: «الناس في بلادي» (1957) و«أقول لكم» (1961) و«أحلام الفارس القديم» (1964) و«تأملات في زمن جريح» (1970) و«شجر الليل» (1973) و«الإبحار في الذاكرة» (1977). بالإضافة إلى خمس مسرحيات شعرية، هي: «مأساة الحلاج» (1964) و«مسافر ليل» (1968) و«الأميرة تنتظر» (1969) و«ليلى والمجنون» (1971) و«بعد أن يموت الملك» (1975).
وجُمعت مقالاته وإسهاماته النقدية والفكرية (التي كان ينشرها في الدوريات والصحف وبالأخص في «صباح الخير» و«روزاليوسف» في تسعة كتب قيمة: «ماذا يبقي منهم للتاريخ»، «قصة الضمير المصري»، «أصوات العصر»، و«تبقى الكلمة»، «قراءة جديدة لشعرنا القديم»، «حتى نقهر الموت»، «حياتي في الشعر»، «رحلة على الورق»، «على مشارف الخمسين». كل ذلك فضلا عن ترجماته التي يتصدرها ما ترجمه من مسرح ت. إس. إليوت الذي ترك بعض بصماته على مسرحية «مأساة الحلاج».
وقد قامت الهيئة العامة للكتاب بنشر أعماله الكاملة في 12 مجلدًا.. ولكن الذي أشرف على هذه الطبعة لم يوثقها توثيقا علميا، فضلا عن أنه لم يكن علي إحاطة كاملة بأعمال صلاح عبد الصبور، فلم تضم الأعمال الكاملة كل ترجماته المسرحية، فضلا عن عدد من المقالات والقصائد التي لم ينشرها في دواوينه، أو نشرها بعد دواوينه.
ويكشف جابر عصفور في دراساته المهمة عن صلاح عبد الصبور (جمعها في كتاب بعنوان «رؤيا حكيم محزون ـ قراءات في شعر صلاح عبد الصبور») أن شعره مر بتحولات مهمة ومتعددة إلى أن انتهى إلى كونه ما أطلق عليه "رؤيا حكيم محزون في الحياة والأحياء"، فقد بدأ شاعرا يساريا متعاطفا مع شعارات اليسار الشيوعي في مصر، وذلك على نحو لم يخل من تأثر بالوجودية، وكان ديوانه الأول الشهير «الناس في بلادي» شاهد هذه المرحلة وعنوانها الأشهر.
ولكن صلاح عبد الصبور، يقول جابر عصفور، تخلى عن يساريته المتعاطفة مع الشيوعية المصرية، وانقلب عليها أواخر 1956 وهو الأمر الذي تعد قصائد ديوانه الثاني «أقول لكم» دليلا عليه، حيث تحل الأنا الوجودية المتلفعة بالميتافيزيقا محل الأنا الثورية المهمومة بهموم الفقراء. ومن المؤكد، بحسب عصفور، أن قسوة الهجوم النقدي اليساري على الديوان الثاني تركت أثرها على صلاح عبد الصبور، لكن سلبية لويس عوض غير الجارحة لفتت نظر عبد الصبور إلى أن التوازن بين الفكر والشعور قد اختلَّ في الديوان، وأن الفكر تغلب على «أقول لكم» وتضخم بخاصيتي "التجريد والتقرير"، ولذلك جاء الديوان الثالث «أحلام الفارس القديم» بأجمل صور التوازن بين الفكر والشعور على نحو أعاد الحيوية إلى شعر صلاح عبد الصبور ووصل بها إلى الذروة، خصوصا بعد أن نجح في تحويل الفكر إلى مشاعر متأملة، والشعور إلى وعي يجتلي ذاته، على نحو تنقسم فيه الأنا إلى ذات ناظرة وذات منظور إليها.
ظل هذا التوازن مستمرا في شعر صلاح عبد الصبور ودواوينه اللاحقة التي فتحت من الآفاق الإبداعية ما كان مغلقا، ابتداء من «تأملات في زمن جريح» الذي يحمل أصداء هزيمة 1967 وأوجاعها إلى «شجر الليل» الذي تصل فيه شاعرية صلاح إلى ذروتها، ثم ديوان «الإبحار في الذاكرة» الذي جاء تجسيدا لرؤية عالمه في ذروة تشاؤمها وذروة رفضها للواقع الذي لا يتوقف عن تكرار إحباطاته إلى ما لا نهاية. ومن الواضح أن الإحباط من الوضع السياسي الاجتماعي قد تضافر مع الحيرة الميتافيزيقية التي لم يُنجِ صلاح الشاعر منها لجوؤه إلى التصوف، والاختفاء وراء أقنعة أقطابه الذين كانوا ينتهون إما بالقتل كالحلاج أو رؤية الأنقاض السوداء للعالم، خصوصا بعد أن تحوّل العالم إلى غابة.
aXA6IDMuMTI4LjIyNi4xMjgg جزيرة ام اند امز