يبدو أنه لا بد من أن يعيش كل واحد منا تجربة اللجوء القسري حتى يعي ملًيا هول قبح العالم.
عادة ما نهتم بالنسبة إلى ما يسمى بؤر التوتر بمسألة الصراع وحيثياتها، وحركة الصراع ذاتها، والطرف الأكثر قوة والآخر الأضعف.. فهو اهتمام، وإن كان طبيعيا جدا، إلا أنه في الحقيقة يبقى منقوصا إلى أبعد الحدود. فالشعوب التي تعيش ويلات الحرب والتوتر، تفقد حتى بعض تلك المقومات التي تصنع هويتها بوصفها شعوبا، ويصبح الوطن وبقية العالم عبارة عن علبة كبريت.
ولكن ليس الذين يختارون البقاء في وطن مشتعل، هم فقط من يستحقون السؤال والمتابعة. فهم عادة ما ُيحافظون على الحد الأدنى من الخدمات، رغم كل أهوال الحرب والموت والفقد المؤلم.. ورغم كل شيء، فإن أقدامهم ثابتة فوق أرض الوطن، وهناك حلم يراودهم بأن تضع الحرب أوزارها في لحظة عاقلة ما. في حين أن الذين لم يجدوا غير اللجوء والنزوح والهجرة حلا اضطراريا وقاسيا، هم من المواضيع المسكوت عنها، أو لنقل من الجماعات المهملة والمهمشة. في هذا السياق، نضع المؤتمر المهم جدا، الذي عقدته منظمة المرأة العربية مؤخرا حول قضايا اللاجئات والنازحات في المنطقة العربية، وذلك عن طريق النظر في معاناة المرأة والطفل بوصفهما ذوي أغلبية نسبية في مجموع القاعدة الديموغرافية للاجئين العرب في العالم اليوم.
طبعا المنظمة العربية ركزت على المرأة والطفل بحكم اختصاص اهتماماتها؛ إذ لا تمايز، حسب اعتقادنا، بين الجنسين في المعاناة بأبعادها الإنسانية والقانونية والحقوقية. ويبدو لنا أن هذه القضية الشائكة، لا تلقى الحد الأدنى من الاهتمام. والحال أن الأرقام، كما قدمتها منظمة المرأة العربية، استنادا إلى معطيات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين، مفزعة ومخيفة، حيث إنه هناك أكثر 6.4 مليون لاجئ سوري في دول الجوار، و90 ألفا طلبوا اللجوء إلى أكثر من 90 دولة خارج الإقليم.
وهناك 3.3 مليون نازح عراقي و8.2 مليون لاجئ يمني، دون أن ننسى اللاجئين الفلسطينيين الذين يبلغ عددهم 9 ملايين نسمة، ممثلين بذلك ربع اللاجئين في العالم. إذن، كما نلاحظ، فإن الأرقام بالملايين؛ مما يعني أننا أمام أرقام تمثل من فرط ضخامتها ما يكّون شعوبا عربية لاجئة، أي أن الظاهرة كبيرة ومعقدة ومتشابكة.
الجدير بالتوقف عنده، أن هؤلاء الملايين من اللاجئين يعيشون معاناة صامتة، ولا يتم الانتباه إليهم إلا صدفة أو عندما تطفو إحدى صور اللاجئين لتتصدر نشرات الأخبار والصفحات الأولى للصحف، كما هو الحال مع صورة الطفل السوري «إيلان»، التي انتشلت جثته على الساحل التركي، فراجت الصورة في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، كما لم ترج صورة أخرى. وبالنظر إلى طبيعة واقع اللاجئين الذي يغلب عليه التعتيم القصدي وغير القصدي؛ إذ كل العالم مشغول عنهم بحساباته، فإننا نكون أمام وضع إنساني يشبه المأساة، إن لم يكن نفسها.
ولقد جاء في كلمة منظمة المرأة العربية ما يشير إلى ما تعانيه المرأة من قهر، وما تضطر إليه الفتيات من زواج قسري وانقطاع عن التعليم. وإذا ما وضعنا في الحسبان أن ما يدور في سوريا على امتداد السنوات الخمس الأخيرة من معارك طاحنة، قد نتج منه ما تم وصفه بأكبر أزمة لجوء عرفها العالم منذ تاريخ الحرب العالمية الثانية، فإن وعينا بدرجة الخطورة يتضاعف.
المشكلة أننا لا نجد صدى يضاهي حجم اللاجئين، ولا نوعية مشاكلهم المختلفة والمعقدة. ذلك أن وسائل الإعلام تتعامل مع الظاهرة المأسوية بشكل مناسباتي يقوم على الإثارة والاستثمار التجاري للمأساة، كما حصل مع صورة الطفل «إيلان». كما أنه تعامل جزئي يركز في أفضل الأحوال على الجانب الإنساني دون الجوانب الأخرى المهمة، التي وحدها قادرة على معالجة المآسي الإنسانية.
وهو في الحقيقة ما فطن إليه المؤتمر الذي عقدته منظمة المرأة العربية مؤخرا حول قضايا اللاجئات والنازحات في المنطقة العربية، عندما ركزت في المناقشات على المشاكل القانونية والأمنية والسياسية. إذ إن البعد الإنساني على أهميته يبقى لا معنى له ولا جدوى إذا لم تعاضده وتدعمه، ويتم تحصينه وتقويته بمعالجة قانونية حقوقية تحمي ملايين اللاجئين العرب. ولعل سطحية تناول وسائل الإعلام لقضية اللاجئين، هي ما شجعت الجهات الموكول إليها مثل هذه المشاكل في العالم لتبني موقف اللامبالاة.
طبعا لا ننكر أن هناك جهودا تبذل هنا وهناك، وأن الكثير من دول الخليج قامت بالاستيعاب الإنساني اللازم، وحاولت التحسيس بأهمية هذه المشكلة، وكذلك بعض الدول الأوروبية استوعبت آلافا من اللاجئين، ولكن يبدو لنا أن حجم اللاجئين أكبر من كل الجهود المذكورة، وهو ما يستدعي آليات أكثر جدوى وأكثر قدرة على معالجة مآسي ملايين اللاجئين العرب. مؤسف أن نتحدث عن كم هائل من اللاجئين العرب، إلى درجة أننا لا نستطيع أن نفهم كيفية اشتغال عقل العالم وقلبه. إننا في لحظة فوضوية بامتياز: نخب سياسية عجزت عن إطفاء التوترات، وعجزت عن تضميد جراح الفارين من أتون الحرب.
يبدو أنه لا بد من أن يعيش كل واحد منا تجربة اللجوء القسري حتى يعي ملًيا هول قبح العالم.
*- نقلاً عن جريدة "الشرق الأوسط".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة