كانت الهزيمة العسكرية فى 1967 ضربة قاصمة بالطبع لمشاعرنا القومية، ومع ذلك فقد قابلنا محاولات السخرية من القومية العربية
إنى أنتمى إلى جيل من المصريين آخذ فى الانقراض، بسبب تقدمه فى السن، ولكنى أعتقد أننا (لهذا السبب نفسه)، لدينا أشياء مهمة يجب أن نقولها للأجيال الأصغر سنا.. وقد رأيت أن ما يحدث فى البلاد العربية الآن يستوجب قول بعض هذه الأشياء.
كنت فى السابعة عشرة من عمرى عندما قامت ثورة 1952، وقبلها وبعدها بقليل قامت انقلابات فى سوريا، ثم فى العراق ولبنان والأردن، سمى بعضها بالثورة.. ولكن أيا كان الاسم فقد كان هذا عصر الانقلابات والثورات، وكانت هناك أسباب كثيرة تجعلنا نتحمس بشدة لها، ونأمل الخير منها.. كان من بين هذه الأسباب بالطبع صغر سننا (فمازلت أذكر أن آباءنا كانوا أقل انفعالا منا بهذه الثورات، وأكثر استعدادا للشك فيها)، ولكن كانت هناك أيضا أسباب وجيهة جدا للتفاؤل تتعلق بمنطقتنا من العالم، وبالعالم ككل، بصرف النظر عن سننا.
كانت البلاد العربية حديثةالعهد بالاستقلال.. بل حتى مصر، التى حصلت على نوع من الاستقلال السياسى فى 1922، لم تكن فى 1952 قد تحقق لها بعد جلاء الجيش الإنجليزى عن أراضيها، إذ لم يتم ذلك إلا فى 1956.. كان الحصول على الاستقلال (والجلاء) كافيا للاعتقاد بأن أمامنا مستقبلا مفتوحا يمكن أن نحقق فيه آمالنا فى التقدم الاقتصادى والاجتماعى.. وقد حدث فى كل البلاد العربية تقريبا، فى ذلك الوقت، ما يقوى هذا الشعور بالتفاؤل: نوع جديد من الحكام أصغر سنا وأشد عزما، وإجراءات ثورية تتخذ للقضاء على الإقطاع ونشر التعليم وإعادة توزيع الدخل... إلخ.صحيح أنه كان قد حدث قبل ذلك بسنوات قليلة (1948) أن أعلن عن قيام دولة إسرائيل على أنقاض دولة عربية وبتشريد شعب عربى، ولكن هذا لم يفتّ فى عضدنا، بل اعتبرناه بمثابة سحابة عابرة سرعان ما تزول.. لقد ظللنا نصف إسرائيل بالدولة (المزعومة) لسنوات كثيرة بعد قيامها، وكنا نصدق بالفعل بأنها مزعومة، بل ولم نكن نسمح لأنفسنا بأن ننطق باسم هذه الدولة، ظانين أن التعود على نطق أو كتابة اسمها قد يعطيها فرصة للبقاء.كنا نقرأ فى تلك الأيام (أى فى مطلع الخمسينيات) كتبا ومقالات رائعة للمفكر السورى القومى ساطع الحصرى، يؤكد فيها القومية العربية، أن أساسها وحدة اللغة، وعلى ضرورة الوحدة.. وأذكر كيف أنه صدّر أحد كتبه بقوله: «إنه عندما سأله سائل عن سبب هزيمة العرب العسكرية على يد الصهيونية، مع أن العرب كانوا يحاربون بستة جيوش ضد جيش واحد، كان ردّه: أن السبب هو هذا بالضبط»، أى أن العرب كانوا يحاربون بستة جيوش بدلا من جيش واحد.
قرأنا فى هذه الفترة أيضا كتابا رائعا آخر هو (يقظة العرب) لجورج أنطونيوس، كان قد صدر أولا بالإنجليزية سنة 1938 باسم (The Arab Awakeing)، ثم صدر بالعربية فى 1946، وقد وضع على غلافة العبارة الآتية (تنبهوا واستفيقوا أيها العرب)، وهى شطر من بيت من الشعر فى قصيدة لشاعر لبنانى كان يدعو للقومية العربية هو إبراهيم اليازجى (1847 ـ 1906).. إن جورج أنطونيوس وصف، بسبب كتابه هذا، بأنه (أول مؤرخ للقومية العربية) كما وصف كتابه بأنه أصبح (شعارا للحركة القومية الحديثة).
عرفنا من هذا الكتاب لأول مرة قصة اتفاقية سايكس بيكو المدهشة، التى قسمت المنطقة العربية بمقتضاها إلى دول تخضع لبريطانيا وأخرى تخضع لفرنسا، واعتقدنا أنا مهمتنا، نحن الشباب العربى الجديد، هى إنهاء هذا الاستعمار.. ظللنا حتى منتصف الستينيات على الأقل لا يثور بأذهاننا أى شك فى أن قوميتنا عربية، وأنها جديرة بالاعتناق والتعهد بالرعاية والانتشار حتى تتحقق الوحدة العربية الشاملة.. لقد بدا لنا هذا الأمر فى حكم البديهيات التى لا تجوز مناقشتها، وكانت الحجج الداعمة لها أشبه بالبديهيات بالفعل.. ولكن كان هناك أيضا من التطورات فى العالم الواسع ما يشجع على تمسكنا بهذا الاعتقاد.
كان هذا العصر عصر تجمع بلاد صغيرة فى وحدات أكبر، فى بلاد العالم الثالث المستقلة حديثا بل وحتى فى أوروبا نفسها التى كونت فى ذلك الوقت السوق الأوروبية المشتركة.. كان هذا عصر القوميات، ومحاولة تحقيق الاستقلال الاقتصادى بسياسات حمائية تستند إلى إثارة الشعور القومى، بالإضافة إلى الحجج الاقتصادية.. وكان الزعماء السياسيون فى الشرق والغرب، حتى وإن رفعوا شعارات اشتراكية أو رأسمالية، يعتمدون فى الحقيقة على إثارة المشاعر القومية.
كانت الهزيمة العسكرية فى 1967 ضربة قاصمة بالطبع لمشاعرنا القومية، ومع ذلك فقد قابلنا محاولات السخرية من القومية العربية (من أمثال فؤاد عجمى وكتاباته فى الولايات المتحدة) بما تستحقه من احتقار، بل حتى قيام السادات بعقد منفرد مع إسرائيل فى 1979، لم ينجح تماما فى أن يفقدنا الأمل فى أن تستعيد القومية العربية قوتها.. لقد ظل رجال من نوع فتحى رضوان وحلمى مراد وأحمد بهاء الدين يكتبون خلال الثمانينيات، وكأنه لا يزال هناك أمل، وإنما الذى نجح تماما فى زعزعة فكرة القومية العربية، حتى كادت تجتث من جذورها هو ما حدث فى منطقتنا وفى العالم ككل خلال الأعوام الثلاثين الماضية.
كان هذا هو عصر العولمة فى أقوى صورها، الدولة القومية تحل محلها الشركة العملاقة، التى تقفز فوق الحدود بسلعها وأفكارها وطموحاتها.. قد تجد هذه الشركات من مصلحتها أحيانا توحيد بعض الدول، ولكن الأكثر حدوثا هو تفتت الدول، حتى الصغير منها، إلى دول أصغر.. وقد حدث أن هذا التطور كان ملائما جدا لمصلحة دولة صغيرة هى إسرائيل، تعادى بطبعها أى شىء له علاقة بالقومية العربية، فأسهمت بدورها فى إحداث مزيد من التجزئة والتفريق بين أجزاء الأمة العربية.
فى أثناء ذلك، سمعنا عن أشياء فظيعة تحدث فى العراق، تتضمن مزيدا من التجزئة والتمزيق، وأشياء فظيعة أخرى تحدث فى اليمن وليبيا، وطوال ذلك تستمر المآسى والكوارث فى سوريا، كان آخرها ما يحدث الآن فى حلب، وهى مدينة كان أى مساس بها كفيلا، مع وجود أى شعور قومى، بأن يهب العرب جميعا لنصرتها والدفاع عنها.. ولكن هذا لا يحدث، وكان هو الذى أثار ذكرياتى القديمة والجديدة عما حدث للقومية العربية خلال الأعوام الستين الماضية.. ثم تصادف أنى كنت أقرأ من جديد فى كتاب أبى أحمد أمين عن سيرته الذاتية (كتاب حياتى)، الذى كان يكتبه فى أواخر الأربعينيات، بينما كانت تصلنى الأخبار المأساوية عما يجرى فى حلب، فإذا بى أجد فى الكتاب الفقرة الآتية: «وها أنذا فى هذه الأيام مرتاع لما أصاب البلاد العربية من أحداث فلسطين، يقلقنى جد الصهيونيين وهزل العرب، واجتماع كلمة الأولين وتفرق الآخرين، ووقوف الأولين على أساليب السياسة الأوروبية والأمريكية والروسية، وفهمهم الدقيق للأوضاع، واستغلالهم الفرص السانحة، وجرى الآخرين على سياسة الارتجال، وجهلهم بما يجرى خلف الستار، وتقصيرهم فى جمع كلمتهم وتوحيد خططهم.. ويفزعنى ما أحرزه الصهيونيون من نجاح لم يكن يتوقعه حتى أكثرهم تفاؤلا وأوسعهم أملا، وأكرر السؤال على نفسى: ماذا سيكون المصير لو استمر الصهيونيون فى جدهم واستعدادهم وتكاتفهم، واستمر العرب فى هزلهم وتخاذلهم؟»..
وها أنذا أكتب الآن بعد أبى بسبعين عاما فلا أكاد أجد غير كلامه لأكرره.ما الذى يمكن لواحد من جيلى أن يقوله لجيل لم يعاصر ساطع الحصرى ولم يقرأ كتاب «يقظة العرب» لجورج أنطونيوس، ولم يكن قد شب عن الطوق عندما بدأ يسمع عبارات السخرية من القومية العربية، ويستغرب جدا أن يسمع أن العرب بينهم ما يوحدهم أكثر مما يفرقهم؟ وأن إنقاذ مدينة مثل حلب هو بمثابة إنقاذ للنفس من الهلاك؟ خطر لى أن أجرب على الأقل بكتابة هذه الذكريات ونشرها، إذ ربما استجاب لها بعض شباب العرب، وحركت فى نفوس بعضهم نوازع دفينة يظل لدىّ دائما أمل فى أنها لا تزال كامنة.
*- نقلاً عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة