المسرح الجزائري.. من "المداح والقوال" إلى المونودراما
شهد المسرح الجزائري منذ نشأته حركة لا تهدأ على يد فنانين كبار زاوجوا بين قضايا المجتمع وتقاليد الفن الوافد ومزجه بأشكال الفرجة الأصيلة
بثراء مسارحها وتميز عروضها، تتهيأ الجزائر لاحتضان الدورة التاسعة لمهرجان المسرح العربي في يناير 2017، المسرح الجزائري تاريخه عريق، إذ شهد منذ نشأته حركة لا تهدأ على يد فنانين ومبدعين جزائريين كبار، زاوجوا بين هموم وقضايا مجتمعهم وبين تقاليد الفن الوافد ومزجه بأشكال الفرجة والأداءات الشعبية الأصيلة. تاريخ من الفن، ورحلة طويلة من الابتكار والنصوص والعروض التي سجلت بحروف من نور في مدونة الإبداع المسرحي العربي في ما يقارب القرن عمرًا.
وإذا كان اتصال الجزائر بالحضارة الأوروبية من خلال الاستعمار الفرنسي قد جاء مبكرًا، فإن الباحثون ومؤرخو المسرح الجزائري يتفقون أن إرهاصات فن المسرح الباكرة في الجزائر كانت عبارة عن عروض شعبية وغناء شعبي يقام في المقاهي، ففي بداية الأمر لم يعرف المجتمع الجزائري المسرح بمفهومه الغربي بل كان يمارس أنواعًا وأشكالًا من مظاهر العروض الشعبية (كان هذا في أقطار الوطن العربي كافة وليس في الجزائر فحسب). من أبرز هذه العروض ما عرف "بالمداح والقوال"، وهي عبارة عن دراما شعبية، وظل هذا النوع مستمرًا حتى احتلت الجزائر من قبل فرنسا عام 1830 ليقوم الفرنسيون عام 1850 بتشييد دار الأوبرا بالجزائر العاصمة، فكان أن زار عدد من المثقفين والفنانين الفرنسيين لهذه الدار.
أما المسرح بشكله المعروف فلم يظهر للوجود في بلد المليون شهيد إلا بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة، أي بعد مضي قرن من الزمن على الاحتلال، قدم أول عرض مسرحي بعنوان "في سبيل الوطن" بتاريخ 22 ديسمبر 1922 من إخراج الكاتب محمد رضا المنصلي، وهي دراما اجتماعية مكونة من فصلين كان قد عرضها هذا الأخير بعد عودته من لبنان إلى الجزائر ليؤسس بذلك فرقة التمثيل العربي، وتعد هذه أول مسرحية تقدم بالعربية في تلك الفترة في الجزائر.
وتمتد أساسات الركح الجزائري (فن التمثيل والأداء المسرحي)، إلى عشرينيات القرن الماضي، مع روائع علالو ورشيد بن لخضر المعروف باسم رشيد قسنطيني، حقق الأخير نجاحًا لافتًا من خلال مسرحيته "بوعقلين" التي تعالج ظاهرة السكر وتعاطي الخمر التي تغيب العقل عن ما يجري حوله، وبذلك لا يلتفت لقضايا مجتمعه ووطنه، وكذلك مسرحية "زواج بالتلفون" التي تناولت الزواج المختلط وأثره على هوية الأسرة الجزائرية، وأيضًا مسرحية "عنتر الحشايشي" التي تندد بالاستسلام والرضى بالواقع، وتوالت بعدها أعماله الأخرى التي استحوذت على الاهتمام والتقدير.
تبنى رشيد قسنطيني، إذن، مسرحًا اجتماعيًّا ملتزمًا راعى فيه اللغة القوية بلهجة راقية ومعبرة، اعتبر نوعًا من المقاومة الثقافية والسياسية ضد المستعمر الفرنسي، وعمل على نشر الوعي في صفوف الشعب الجزائري لحثه على الثورة ضد أوضاعه المزرية من جهة، ومن جهة أخرى، حثه على الحفاظ على هويته التي استهدفها هذا الاستعمار. كما رافق الرجل جيلًا كاملًا من الرواد، منهم باش طرزي، وعلالو، ودحمون، وجلول باش جراح، والفنانة ماري سوسان زوجة قسنطيني، وهي أول ممثلة على خشبة المسرح الجزائري.
قبيل الحرب العالمية الثانية، ظهر جيل جديد من المسرحيين، يتقدمهم مصطفى كاتب، ومحمد توري وحسن الحسني. لكن العروض انقطعت على الركح الجزائري، مع اندلاع الحرب العالمية الثانية ولم تستأنف مسيرتها إلا في عام 1946 مع ظهور أسماء جديدة.
لمع نجم الفنان الراحل محمد توري، كأكبر الفكاهيين خاصة في مسرحية "ملاكم رغمًا عنه"، وشبه وقتئد بالكوميدي الأميركي بوستر كنيتون، ولاقت أغانيه الفكاهية الهادفة رواجًا.
مع اندلاع ثورة التحرير الكبرى عام 1954، أوقف الاستعمار الفرنسي عروض المسرح، فتأسست فرقة جبهة التحرير الوطني سنة 1957 بقيادة مصطفى كاتب، وازدهر حينها المسرح والباليه بنزعة ثورية.
انضم إلى هذه الفرقة فنانون منهم: سيساني، ويحيى بن مبروك، وعبدالحليم رايس، وسيد علي كويرات وغيرهم. وعرضت أغلب مسرحياتها في الخارج، ومنها "العهد الوفي" و"أبناء القصبة" وكانت مدعومة بنصوص مترجمة، فنالت الشهرة والتأييد الخارجي لثورة التحرير الجزائرية.
مع إعلان الاستقلال، أممت دار الأوبرا وتحولت إلى المسرح الوطني الجزائري، وشهدت تلك الفترة بروز، الحاج عمر، الذي أبان عن تأثر بالمدرسة الألمانية، وتميزت روائعه بين سنوات 1963 و1971 بالاقتباس العالمي.
في هذه الفترة، كان للمسرحي عبدالرحمن كاكي دور بارز، واشتهر بمسرحيته "فريك" سنة 1963، التي عرضت في قاعة الأطلس العريقة تحت أنظار الرئيس الراحل أحمد بن بلة والزعيم اليساري تشي جيفارا.
خلال تلك الحقبة، تأسست مدرسة برج الكيفان وبرزت أسماء فنانين من خارج العاصمة منهم عبدالقادر علولة، ومعه ظهر المسرح الجزائري الملتزم المشبع بالإيديولوجيا. شق طريقه على خشبة المسرح برائعته "الخبزة" عام 1969، وانهمر سيل أعماله بغزارة، فجاءت مسرحية "حمق سليم"، لتؤسس لأول مونولوج في الجزائر.
وبلغ المسرح الجزائري عهده الذهبي في ثمانينيات القرن الماضي، لكن اندلاع العنف مطلع التسعينيات، حال دون استمرار ذلك العهد الجميل، إذ أسكتت اغتيالات "العشرية السوداء" أصواتًا مسرحية منها عز الدين مجوبي وعبد القادر علولة وآخرين.
في الثمانينيات، ظهرت أهم روائع المسرح الجزائري "الأجواد"، "الشهداء يعودون هذا الأسبوع"، "الوا العرب؟ "وغيرها، كما ظهرت أسماء مهمة، منها المخرج عبد المالك بوقرموح من مسرح بجاية الذي برزت عبقريته في الإخراج والديكور (بلاستيك والعرض المصور على الركح) ومن بين ما قدم الراحل "حزام الغولة" و"يا رجال يا حلالف".
في المقابل، تميزت تلك الفترة بازدهار تجربة "المونولوج" التي أملتها ظروف اقتصادية وأمنية، وهو لون مسرحي يمتلك مقومات المسرح من نص وديكور وإخراج وغيرها. ثم راجت عروض "وان مان شو" مع الفنان محمد فلاق، والفنانة المبدعة صونيا، وهو نوع لا يعتمد على نص دراماتولوجي ولا على ديكور أو إخراج بقدر ما هو تحرر تام من قوانين المسرح.
وأخيرًا، فإن للمسرح الجزائري أثرًا طيبًا حيثما حل وارتحل، ولعل آخر أصدائه كانت خلال الدورة الثامنة للمسرح العربي في الكويت، حيث شارك بثماني مسرحيات اختارت منها لجنة التحكيم مسرحيتين اثنتين. نافست مسرحية "ونزيد نزيدك" لمخرجها فوزي بن إبراهيم والمؤلف عبدالله البصيري، على نيل جائز الشيخ سلطان بن محمد القاسمي، ضمن قائمة العروض الأولى، وتمثل العرض الثاني بمسرحية "عطيل" لويليام شكسبير للمخرج أحمد مداح.