سيرة السادات لسوليه.. براعة تحليل الوقائع بلغة روائية أنيقة
يعود روبير سوليه إلى تاريخ مصر، وإلى سيرة السادات تحديدًا ليكتبها على نحو مكثف روائيًّا، موازيًا ما بين حياته الشخصية وسلوكه السياسي.
لا نعرف على وجه الدقة عدد الكتب التي صدرت بمختلف اللغات عن الرئيس المصري الراحل أنور السادات، أحد أبرز الرؤساء في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي صنع في سياساته وتحولاته، وفي أطوار حكمه، سيرة محتشدة بالقرارات المصيرية، التي كان لها آثار عميقة على بلده مصر، وعلى العالم العربي والعالم أجمع.
بدوره، يعود روبير سوليه، الروائي والصحافي الفرنسي، المولود في مصر، والشغوف بهذا البلد وتاريخه.. يعود إلى ذاك التاريخ، وإلى سيرة السادات ليكتبها على نحو مكثف روائيًّا، موازيًا ما بين حياته الشخصية وسلوكه السياسي.
الكتاب الذي صدر أولًا بالفرنسية عام 2013 يصدر اليوم بالعربية، بترجمة أدونيس سالم، عن دار (هاشيت أنطوان نوفل) ببيروت، وهو نتاج بحث استمر لسنوات طويلة، رسمًا لصورة متعددة الأبعاد والزوايا، لشخصية إشكالية لها ظلالها الكثيرة على تاريخ الشرق الأوسط المعاصر.
يستدعي حضور السادات وتذكره أسئلة متناقضة: بطل الحرب والسلام أم خائن العرب وقضيتهم؟ الرئيس المؤمن أم عدو الإسلاميين؟ صديق عبد الناصر أم كارهه الأول؟ أحد أعمدة "الاتحاد الاشتراكي" أم حليف الرأسمالية العالمية؟ القائد الذي استعاد سيناء عن حق أم ذلك الذي احتفى باستعادة صورية مذلّة لأراضي 1967؟ بطل عبور 1973 أم ممثل فاشل ضلّ طريق السينما، فوصل إلى مسرح السياسة؟
لا يطلق روبير سوليه أحكامًا معيارية أو أخلاقية، بقدر ما يكتب سيرة "تحليلية" واسعة، تدلنا على رجل، يعترف الجميع أنه قام بمبادرات غيّرت على نحو جوهري الخريطة السياسية في الشرق الأوسط.
ومع أن السادات حكم فقط إحدى عشرة سنة، كان له تأثير أهم بكثير من السنوات التسع والعشرين التي قضاها حسني مبارك في الحكم، وحسب سوليه، يمكن القول، إن تكريس عناية بالغة للإلمام بعهد السادات هو أمر لا غنى عنه من أجل فهم مصر راهنًا، وربما حتى العالم العربي.
عناية سوليه بتشكيل "بورتريه" لائق للسادات، تبدو واضحة في اختياره لغة روائية بالغة الأناقة، ولا يتوقف الكاتب عن التعبير عن تعاطفه وإعجابه بهذه الشخصية، كما لو أنه يسرد قصة بطل شعبي محبب: "دأب أنور على النوم فوق تنّور الخبز، وسوْق الماشية إلى الترعة لتشرب، والمشاركة في أعمال الري وقطاف القطن. وكانت إحدى ملذاته المفضلة أن يرافق جدّته سيرًا على درب ترابية، لشراء جرة من الدبس".
يرشدنا سوليه إلى شخصيتين لعبتا الدور الأول في بداية تكوين وعيه السياسي، وهو لم يزل يافعًا، فهناك البطل زهران، الذي روت له جدته حكايته، أنه الفلاح الذي أعدم في العام 1906، بعدما أدين بقتل ضابط إنكليزي في قرية دنشواي، غير البعيدة عن قرية السادات ميت كوم، وهناك أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة، وسيصبح بطلًا لأنور بفضل كتاب يروي سيرة حياته، لم يفارق يومًا سرير السادات، الذي أكد في مذكراته: "بقي إعجابي بكمال أتاتورك، بعدما زال كل شيء آخر".
من سخرية القدر ومفارقاته، أن السادات الشديد العداوة للاحتلال البريطاني، والطامح إلى ارتداء البزّة العسكرية لهذا السبب بالذات، لم يدخل الكلية الحربية إلا بواسطة كتاب توصية من صديق والده المايجور فيتزباتريك، فيقول السادات لاحقًا: "يشاء القدر أن الذي أدخلني الكلية الحربية واحد إنكليزي".
بعد التحاقه بالكتيبة الخامسة في منقباد، وهي مدينة صغيرة قريبة من أسيوط، سينضم إلى شلة من الضباط الرفاق، منهم جمال عبد الناصر: "وفي المساء، كان الرفاق المتحلقون حول نار المخيم يعيدون تشكيل العالم"، راويًا سوليه البداية الأولى لما سيصبح بعد سنوات تنظيم "الضباط الأحرار".
المذهل في سيرة تحولات السادات، هو أنه في لحظة تعلقه بأتاتورك كمثال أعلى يحتذى به، انجذب إلى شخصية غاندي، إلى حد أنه قلده في ملبسه واعتكف فوق سطح بيت أهله لأيام... ثم تحول إلى مناصرة تنظيم "مصر الفتاة" شبه الفاشي، بل أنه راح يطوف على الأحزاب السياسية، بعد تخرجه، بحثًا عن التزام حزبي يناسبه. ولشدة ما كان مأخوذًا حينها بالجيش الألماني (أواخر الثلاثينات) قصّ شعره قصَّة الجنود البروسيين، واشترى نظّارة أحادية العدسة، وراح يتبختر لبعض الوقت متأبطًا عصا، وفي مطلع الأربعينات، سيلتقي شخصية خارجة عن المألوف: الشيخ حسن البنّا، فافتتن به من غير أن يؤدي ذلك إلى انتمائه لتنظيم "الأخوان المسلمين" وكأن في تلك العلاقة، ما يدل على التاريخ الغامض والمأسوي بين ضباط الجيش و"الإخوان"، علاقة انجذاب فتحالف ضد الملك، ثم نفور فعداوة دموية لا تزال سارية حتى اليوم.
التحولات الدراماتيكية التي تميز السادات هي عينها التي سنشهدها بعد وفاة جمال عبد الناصر، ثم بعد حرب 1973 لكنه في كل الأحوال، ظل وفيًا للدور الذي ظنه لنفسه: أن يكون أتاتورك مصر، وإذا كان من خطأ أساسي ارتكبه، ويصعب حتى اليوم تدارك نتائجه، فهو لعبه بالنار باعتماده على الإسلاميين في محاربة اليساريين والناصريين، فلم يخطئ فقط في تحديد الخصم، بل أطلق عملية ضارة كلّفته حياته في نهاية المطاف، ومن غير المفهوم وليس ممكنًا الانفتاح على الغرب، وتوقيع السلام مع الإسرائيليين، ودعم حقوق المرأة، وفي الوقت عينه إطلاق العنان للذين يطالبون بدولة دينية، وهذا الخطأ بالذات هو الذي تجني منه مصر حتى أيامنا هذه الكوارث المتتالية سياسيًّا وأمنيًّا واجتماعيًّا.
قراءة "السادات" حسب رواية روبير سوليه، مبهجة بسلاستها، منصفة، وبارعة في تحليل الوقائع، غير مكتفية بالسرد الكرونولوجي، سيرة تدلنا على المادة التاريخية التي صنعت رجال السلطة في البلاد العربية.
aXA6IDE4LjIxNy45OC4xNzUg جزيرة ام اند امز