سبكتر لـ"سام مندس".. خديعة سينمائية
يدفع "سبكتر"، لشدّة بهتان مادته الدرامية ومضمونه الحكائيّ، للسؤال بإلحاح عن جدوى تقديم تتمة سينمائية لفيلم منتهٍ مع خاتمته.
لا شكّ في أن "سبكتر" (2015) لسام مندس سيبقى أكثر أفلام السلسلة السينمائية الأشهر في عالم الجاسوسية، الخاصّة بالعميل البريطاني جيمس بوند (007)، طرحاً لسؤال معنى استمرار إنتاج هذا النمط السينمائي من أفلام التشويق والحركة والصراعات الأمنية والجاسوسية، المحتوية في طياتها على تلميحات في السياسة والاقتصاد والإعلام أحياناً عديدة. ذلك أن الفيلم المذكور، لشدّة بهتان مادته الدرامية ومضمونه الحكائيّ، يستعيد بإلحاح سؤال جدوى تحقيق تتمة سينمائية، أو نسخة سينمائية إضافية، بينما هذا الفيلم أو ذاك مكتفٍ بذاته، ومنتهٍ مع خاتمته.
في كتابه "جوني ديب متمرّد هوليوود: الوجوه العديدة للسيّد شيلينغ" (باريس، 2015)، يسأل الأمريكي جون غريفن: "كم من مرّة يُفترض بالحكاية أن تُسرَد قبل أن ننتهي منها" (ص. 54)، وذلك في سياق تناوله "كابوس في شارع إلم" (1984) للسينمائيّ الأمريكي وس كرافن (1939 ـ 2015)، إذ يُشير الكاتب إلى أن المخرج ينتبه، بعد النجاح التجاريّ الاستنثائي للفيلم هذا وعلى الرغم منه، إلى لا معنى الانجراف في أفلام الـ"تتمة".
ينطبق التساؤل على الفيلم الـ 24 لجيمس بوند. فالخواء القصصي طاغٍ، كطغيان لغة الأكشن والمطاردات المغلَّفة بمشهدية بصرية، يتفنّن صانعوها بابتكار أشكالها وأنماطها على حساب الحكاية. ومع أن النجاح التجاري حليف عدد لا بأس به من أفلام السلسلة ـ خصوصاً الفيلم السابق لهذا وهو بعنوان "سكايفال" (2012) لمندس أيضاً، الذي يُعتبر أكثر أفلام جيمس بوند تحقيقاً لإيرادات دولية، تبلغ ملياراً و108 ملايين و561 ألفاً و13 دولار أمريكي بين 23 أكتوبر 2012 و24 مارس 2013، في مقابل ميزانية إنتاجية تساوي 200 مليون دولار أمريكي ـ إلاّ أن الشقّ القصصيّ يثير دهشة "بعض" محبّي السلسلة ومتابعي مغامرات بطلها، بالإضافة إلى نقّاد ومهتمّين بالفن السابع، بسبب غياب قصّة متكاملة وواضحة، علماً أن مشهد انفجارٍ ـ يتمّ تصويره في المغرب، ويُعتبر أكبر خدعة تفجير سينمائية بحسب موسوعة "غينيس" ـ يبقى أقلّ قدرة على إنقاذ المغامرة كلّها من رتابة سرد يُجمع عديدون على فقدانه كلّ براعة قصصية في مطاردة منظّمة إجرامية تحمل اسم "سبكتر"، وكلّ عمق إنساني متعلّق بشخصية العميل البريطاني (دانيال كريغ للمرة الرابعة على التوالي يؤدّي الدور هذا)، الغارق في ذكريات أليمة مرتبطة بمديرته.
يُجمع عديدون على أنه يُفترض بـ"سبكتر" أن يكون لحظة تأمّل فعليّ في مستقبل السلسلة، مع أن منتجيها مصرّون على الاستمرار في ابتكار أشكال متنوّعة يرون أنها الأقدر على ضخّ الأموال في خزائنهم، بصرف النظر عن مدى قدرة الحكاية على الإقناع الدرامي والجماليّ. (الخديعة السينمائية هذه، المنفَّذة بطريقة مدهشة، تستمرّ 7 ثوانٍ ونصف الثانية، والانفجار البصريّ يُعادل 68،47 طناً من مادة "تي. إن. تي." شديدة الانفجار، بالإضافة إلى 8418 ليتراً من مادة "كيروسين"، و33 كيلوغراماً من مسحوق مادة تفجيرية).
لعبة الأرقام مثيرة. فبين 26 أكتوبر و25 نوفمبر 2015، يُحقّق "سبكتر" 683 مليوناً و802 ألفاً و330 دولار أمريكي كإيرادات دولية (في الفترة نفسها تقريباً، يُشاهده نحو 83 ألف مُشاهدٍ في دولة الإمارات العربية المتحدّة)، لقاء ميزانية إنتاجية تساوي 245 مليون دولار أمريكي. الرقم مُرشَّحٌ للارتفاع، ما يعني أن عدم وجود بنية حكائية ـ قصصية ـ درامية منطقية ومتماسكة ومتينة الكتابة والعقدة والمسار، لن يقف حائلاً دون تدفّق أموالٍ على المنتجين/ الموزّعين: "EON للإنتاج" و"أم. جي. أم." و"كولومبيا" تحديداً ("سوني" مُشاركة في التوزيع). ما يعني أن "الثقل التاريخي" للسلسلة يبقى الركيزة الفعلية لشعبية "سبكتر"، ولرغبة كثيرين في متابعة الوقائع كلّها للشخصية الرئيسية في سعيها الدؤوب إلى منع الأعداء جميعهم من تحقيق ما يريدون، بصرف النظر عن وجود "قصّة" فعلية أو لا، أكان الأعداء مجرمين يريدون تدمير العالم من أجل تحقيق مصالح شخصية ضيّقة، أو جواسيس يمارسون أعمالهم وفقاً لصراعات قائمة بين الدول، أو "تجّاراً" دوليين لا يتردّدون عن بيع/ شراء مواد أو أدوات تفتك بالبشرية برمّتها. فالمشهدية الخاصّة بأوسم عميل في العالم تبقى جاذبة، وإن لم يتوصّل الفيلم الـ 24 هذا إلى تفعيلها بصرياً، أو إلى بلورة سياقاتها السردية درامياً.
بعد استلامه رسالة مشفّرة مقبلة إليه من ماضيه السحيق، يبدأ جيمس بوند تحقيقات حول منظّمة سرّية وغامضة. في الوقت نفسه، تواجه إدارة جهاز التجسّس (الذي يعمل فيه) عاصفةً سياسية تدفعه إلى ابتعاد ملحوظ عن عميله المفضّل، فيجد الأخير نفسه وحيداً في عالم غارق بالحيل الجرمية والعنف المباشر، ويضطرّ إلى إقامة تحالف مع ابنة عدوٍ قديم له تدعى مادلين سوان (ليا سايدو)، بهدف كشف النقاب عن خفايا المنظّمة هذه، المعروفة باسم "سبكتر".
هذا كلّه عاديّ، تماماً كما في المفاتيح الأساسية للنسق الجيمس بونديّ المعروف تقليدياً: المطاردة، السيارات الفاخرة، النساء، المشروب، الملابس، الألعاب المتضمنة مواداً مختلفة للاستعمال الشخصي في عملية المطاردة، المشهديات البصرية غير المنطقية لكنها المقبولة جماهيرياً، إلخ. لكن تساؤلات عديدة تُطرح حول الشخصية الأساسية (جيمس بوند)، إذ يذهب البعض إلى القول إن سام مندس يُقدّم "حكاية هزيلة"، ويدفع بوند إلى إجراء عملية "شدّ" ليتلائم حضوره الماديّ مع اللقطات التشويقية الضخمة، ويُسقط عن "سبكتر" ميزات شخصيته هذه، إلى درجة أن متابعي أفلام السلسلة لن يعثروا فيه على ما يُميّزه عن العناوين السابقة: "أصبحنا لا نميّز فيلماً لجيمس بوند عن أي فيلم آخر"، يقول متابعون ومهتمّون. هناك من يُعلِّق على "الاضطرابات النفسية" لبوند بالقول إن أحداً من المشاهدين لن يهتمّ بها، خصوصاً أن المُصاب بها (جيمس بوند) عميلٌ "يعرف دائماً كيف ينهض من تحت أنقاض الزمن وتحوّلاته من دون أضرار جانبية، ومن دون الاستعانة بنظريات التحليل النفسي".
aXA6IDMuMTQ3LjUzLjkwIA==
جزيرة ام اند امز