دخل كاليغولا ممتطيا صهوة جواده قاعة البرلمان، فهتف الأعضاء بحياة زميلهم الجديد!
دخل كاليغولا ممتطيا صهوة جواده قاعة البرلمان، فهتف الأعضاء بحياة زميلهم الجديد!
درس علماء السياسة والاجتماع والنفس، هذه الواقعة القادمة من فجر التاريخ ـالقرن الأول للميلادـ من جانب الحصان، بحثوا عن الشطط الذي جعل أعضاء مجلس الشيوخ في روما القديمة، يحتفون بانضمام جواد قائدهم المهووس إلى مجلسهم الموقر، حتى سلفادور دالي سحرته الرمزية في الواقعة التاريخية، فاختار أن يعبر عن جنون كاليغولا، برسم لوحة لجواده إنستاتيوس بتاجه وهيبته الملكية.
ليس خطأ من الدارسين ومعهم دالي وغيره استلال الرمز من الحدث، فهو كالعلامات التي تؤشر إلى الاتجاهات في الطرق العامة، لكن الخطأ يكاد يكون قاتلا حينما يصبح اختزالا أو ابتسارا للحدث ودلالاته، فمن درس كاليغولا وحصانه وبرلمانه، تجد أجيال الناس في مختلف الثقافات والحضارات والحقب نفسها، أمام السؤال الدائم : من الذي يصنع الديكتاتور؟ صاحب نزعة الهيمنة والاستئثار والاستهتار، أم القابلين بالخضوع والخنوع، والمستسلمين تحت نير المظالم؟ ما هو الأصل هنا: الطغيان أم الهوان؟
كأن هذا السؤال يحيل إلى الدراسة التأسيسية التي أطلقها مالك بن نبي عام 1948 تحت عنوان "القابلية للاستعمار"، كان المفكر الجزائري في دراسته تلك، يبحث عن "شروط النهضة" "عنوان كتابه"، انطلاقا من التخلص من عوامل القابلية للاستعمار، وبالمقارنة، تبدو التشابهات كثيرة بين حالتي الطغيان والاستعمار، لجهة عوامل وظروف تكريسهما، وأدوات وشروط التخلص منهما.
وهذه القضية شغلت الفكر الإنساني منذ أيام فلاسفة اليونان القدماء، وحتى رواد "السوشيال ميديا" المعاصرين.
فالفيلسوف اليوناني أرسطو رصد طريقتين لترسيخ الحكم الاستبدادي، أولاهما أن يروّع المستبد شعبه ويرهبه ويضطهد معارضيه، والأخرى أن يتّبع بعض أساليب الخداع السياسي لتجميل صورته أمام الشعب، وروّج فيلسوف الدهاء السياسي ميكيافيلي للطريقة الثانية.
وعند العرب كان عبد الرحمن الكواكبي، أبرز من تناول ظاهرة الاستبداد السياسي في جذورها وسفورها، ففي كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، لم يكتف الكواكبي بحصر الممارسة الديكتاتورية في الجانب القهري وأدواته فقط، فذلك هو افتئات على ذكاء الديكتاتوريات، ومن هنا جاء توثيقه لملامح الديكتاتوريات وممارساتها تحت تسعة عناوين هي: التعريف، والاستبداد وكل من العلم، والمجد، والمال، والأخلاق، والتربية، والترقي، ثم سبل التخلص من الاستبداد.
ومن سخرية المفارقات أن الكواكبي كتب مقالاته تلك في مدينة حلب، ويخلص فيها إلى أن الاستبداد يكوّن مجتمعاً استبدادياً تسيطر عليه شبكة معقدة من الآسرين الذين يخضعون الناس فيجعلونهم أسرى يبغضون المستبد ولا يقوون على محاربته، لذلك يتعادون فيما بينهم، ويظلمون ضعافهم ونساءهم، فيصبح كل إنسان مظلوما من جهة وظالما من جهة أخرى، ويبرز من بينهم شخص يستلم زمام السلطة السياسية، فيتحد به الآخرون متأثرين بالدعاية، وللاستبداد أثر سيئ على الدين إذ يحوله إلى وسيلة استلاب، ويمنع تداول العلم، ويفسد الأخلاق والعلاقات الإنسانية، ويعزز التفاوت بين الناس ليبقيهم في صراع دائم حول الامتلاك ويجعلهم يتدافعون لإحراز الثروات. ويختم شيخ المجددين في عصره بأنه تبين بأن الاستبداد هو ضد التقدم، ولذلك لا بد من هدم صرحه ودك حصونه واستبداله.
وبكلماته، يقدم الكواكبي وصفا للمستبد وللخاضعين له لا شك أنه سبق فيه نظريات علم السياسة الحديث، ففي رأيه أن "المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي لمطالبته (…)، المستبد عدو الحق، عدو الحرية وقاتلها، والحق أبو البشر والحرية أمهم، والعوام صبية أيتام نيام لا يعلمون شيئا، والعلماء هم إخوتهم الراشدون، إن أيقظوهم هبوا وإن دعوهم لبوا وإلا فيتصل نومهم بالموت".
يتبدى من ذلك أن العلاقة بين الديكتاتور المستبد ومحكوميه، هي علاقة جدلية، تماما مثل علاقات الحب والكراهية، تحتاج دائما إلى طرفين: حاكم ومحكوم، فمن دون أحد الطرفين تفتقد الديكتاتورية شرط وجودها ومبرر قيامها، وفي كتابه "عنف الديكتاتورية" يقدم الكاتب النمساوي ستيفان زيفايغ نماذج مريعة عن ثنائية العنف هذه بين القاتل والقتيل.
وعن هذا المعنى يتحدث ريتشارد بهرندت، وهو أحد فلاسفة مدرسة فرانكفورت، عن وجود مفاهيم خاطئة في المجتمعات الناشئة مفادها أن الحل الوحيد لإحداث تطور سريع هو سيطرة شخص واحد على الحكم وتمكينه من تطبيق خطة نهضوية شاملة.
هذه المقاربة للديكتاتورية لا تتقصد حالة سياسية راهنة أو معينة، وأي إسقاط أو إحالة من هذا النوع تخرج المقاربة من سياقاتها، وتجعل من الديكتاتوريات المعاصرة عصية على التوصيف والتصنيف، فقد أخضعت الديكتاتورية المعاصرة نفسها لعمليات تجميل كثيرة، فهي تظهر على الناس بصور زاهية وربطات عنق برّاقة، لكنها مع ذلك لم تستطع مراوغة الجادين عن اقتفاء أثرها، على النحو الذي فعله شارلي شابلن في فيلمه المبهر "الديكتاتور" والذي عرّى فيه النزعة النازية، وما سجله الأديب النوبلي الغواتيمالي ميغيل أنخيل أستورياس في روايته "السيد الرئيس"، وتلك المناجاة الممضة التي سطرها محمود درويش في "خطب الديكتاتور الموزونة"، وفيها: "سأختار شعبي، سأختار أفراد شعبي سأختاركم واحدا واحدا من سلالة أمي ومن مذهبي، سأختاركم كي تكونوا جديرين بي".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة