بين "الرواية" و"الدراما".. حدود الالتزام والإبداع
يثار التساؤل حول مدى التزام صناع الدراما بحرفية النص الروائي المأخوذ عنه أو بصيغة أخرى ما الحدود التي ينبغي التزامها من عدمه
كان الروائي الراحل نجيب محفوظ، حينما يُسأل عن رأيه في تحويل أعماله الروائية والقصصية إلى سيناريوهات أفلام أو مسلسلات، ومدى قبوله أو رفضه لإجراء تغييرات على نصه الأصلي.. كان يجيب بوضوح وحسم بأنه مسؤول فقط عن نصه المكتوب، وليس له أن يتدخل في عمل كاتب السيناريو أو المخرج؛ معتبرًا أن هذا الفيلم أو المسلسل أو أيًّا ما كان الوسيط الذي يستلهم عمله الروائي "عمل فني" مستقل له شروطه وأدواته وهو مسؤولية صانعيه بالكامل، كما كان يرى أن الرواية شيء مستقل تمامًا عن الفيلم والمسلسل؛ فهما عملان فنيان منفصلان لكل منهما رؤيته وشروطه واستقلاليته الكاملة.
يأتي هذا الرأي الذي سجله نجيب محفوظ، قبل نحو 4 عقود، ليصلح للإجابة عن السؤال المثار حاليًّا حول مدى التزام المسلسل الدرامي بحرفية النص الروائي المأخوذ عنه أو بصيغة أخرى ما الحدود (إن وجدت أصلًا) التي ينبغي أن يلتزمها صناع المسلسل حال الاعتماد على نص روائي سابق في صنعه؟
طُرح هذا السؤال بشدة عقب النجاح اللافت الذي حققه مسلسلان دراميان يعرضان حاليًّا في الموسم الرمضاني الحالي، مأخوذان عن روايتين هما "أفراح القبة" و"ساق البامبو"، بالإضافة إلى المسلسل الإماراتي "خيانة وطن" الذي يحظى بنسبة مشاهدة كبيرة بين جمهور الخليج العربي، وخاصة في دولة الإمارات.
العمل الأول "أفراح القبة" الذي أخرجه محمد ياسين وكتب له السيناريو والحوار محمد أمين راضي ونشوى وزايد، أطلق العنان في إجراء معالجة فنية درامية مبتكرة ومبدعة لرواية "أفراح القبة" التي كتبها نجيب محفوظ عام 1981، ولم تثر حينها كل هذا الاهتمام وكانت من أقل أعماله التي حازت اهتماما نقديا، رغم حداثة شكلها الفني وطرحها الوجودي والمعرفي الصعب.
منذ عرض الحلقات الأولى لمسلسل "أفراح القبة" والمتابعة الجماهيرية الكبيرة التي حظي بها، أثير السؤال حول مدى التزام المخرج بحرفية النص الروائي أو خروجه عليه بدرجة ما. تفاوتت الآراء واختلفت وتباينت وإن كان معظم النقاد والمتخصصين في الرواية والدراما على السواء يكادون يجمعون على الحرية الكاملة لصناع العمل الدرامي في إجراء التعديلات الكاملة على النص الأصلي والخروج عليه والإضافة إليه وتقديم الرؤية أو المعالجة التي يريدونها شريطة عدم تشويه النص الأصلي أو الابتعاد، فنيًّا، بمسافة كبيرة، عن روحه أو الإطار العام الذي ابتغاه مبدعه.
هكذا، باغت مسلسل "أفراح القبة" مشاهديه بالمعالجة المبدعة والجديدة التي قدمها للرواية، وكتب أكثر من واحد عن الاختلافات التي بدت في حلقات المسلسل عن النص الأصلي، ورصد آخرون الاختلافات بين الرواية وبين المسلسل. هذا الإجراء أو هذه المعالجة ليست جديدة أبدًا في تاريخ الدراما، ومن المقبول والمعقول (بل المفروض إبداعيًّا) أن يكون هناك اختلافات، تتفاوت بين الجوهري والعرضي في المعالجات السينمائية والدرامية للنصوص الأدبية، بحسب رؤية كاتب السيناريو والمخرج. في "أفراح القبة" اصطنع صناعه خطوطا درامية جديدة وشخصيات لم تكن موجودة في النص الروائي، ونجحوا في تضفيرها بالخط السردي الرئيسي، وبطريقة أقنعت المشاهدين بضرورة وجودها مثل تجسيد شخصيات أسرة "تحية عبده" (أمها وأبوها وأخواتها وزوج الأخت... إلخ) وكانت مشاهد هذه الأسرة في سياق عرضها من أنجح مشاهد المسلسل وأكثرها متابعة وانتشارًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
أيضًا، التكنيك الفني المشبع بروح التجريب والحداثة البصرية، والخروج عن الشكل النمطي التقليدي للسرد الدرامي، أضفى على المسلسل جاذبية خاصة، خصوصا مع اعتماد مخرجه على فكرة البطولة الجماعية وليس الفردية، وإبراز العناصر الجمالية للعمل بشكل لافت من حيث الإضاءة والديكور والملابس وتقطيع المشاهد والانتقال بين زمن السرد الآني وأزمان مرجعية وإطارية أخرى... إلخ
المسلسل الثاني "ساق البامبو" المعروض حاليًّا على القنوات الفضائية، والمأخوذ عن رواية الكاتب الكويتي سعود السنعوسي، لم يثر أسئلة كبيرة في أوساط المشاهدين (بشأن حدود صناع الدراما في تقديم معالجة جديدة من عدمه) مثلما أثار "أفراح القبة" لاختلاف السياق والموضوع، وأيضًا لأن صناع المسلسل التزموا إلى حد كبير بروح الرواية وخطوطها وشخصياتها الرئيسية، وكانت التدخلات أو التغييرات طفيفة للغاية وفي أضيق الحدود.
لكن المسلسل وفي الوقت ذاته، أثار جدلًا واسعًا في أوساط الخليج وخاصة في الكويت (المؤلف كويتي والمسلسل تدور أحداثه ووقائعه في الكويت)، بسبب طرحه لمشكلات اجتماعية لم يتم عرضها ولا معالجتها من قبل على نطاق واسع من خلال الدراما مثل مشكلات البدون، والمولدين (كويتيون من أمهات غير كويتية) ومعاملة الوافدين... إلخ. الجدل مرده إلى موضوع الرواية والمسلسل معا، وليس لاختلافات أو خروجات عن الخط السردي الرئيسي للرواية التي تتخذ شكلا روائيا كلاسيكيا، شكل "السيرة الذاتية"، يرويها بطل الرواية الإشكالي "هوزيه ميندوزا/ أو عيسى راشد الطاروف" الفلبيني/ الكويتي، المسيحي الديانة من جهة الأم/ والمسلم عقيدة من جهة الأب، ومن هذه الثنائيات المتعارضة تتشكل معالم الأزمة/ القضية التي تطرحها الرواية وتعالجها فنيًّا ببراعة ولطف، وهي في عنوانها العريض "الهوية"..
وثمة مسلسل ثالث مأخوذ عن عمل أدبي، أثار وما زال، حراكًا كبيرًا في تلقي الأعمال الدرامية، خاصة في الخليج ودولة الإمارات، وهو المسلسل الإماراتي "خيانة وطن" الذي يكشف أسرار التنظيم الإرهابي لجماعة الإخوان في تجنيد الشباب في الجامعات والمؤسسات التعليمية وغيرها. المسلسل مأخوذ عن رواية بعنوان "ريتاج" للمؤلف الإماراتي حمد الحمادي، وهو العمل الدرامي الأول لقضية وطنية سياسية، ومن قصة إسماعيل عبد الله، وإخراج أحمد المقلة، ومن بطولة النجوم، هيفاء حسين، وجاسم النيهان، وسميرة أحمد، وحبيب غلوم، وبدرية أحمد.
عن الفروقات بين العملين؛ النص الروائي والمسلسل، ومدى تطابق أحداث المسلسل مع أحداث الرواية يقول الحمادي (في مقابلة خاصة سابقة أجراها مع العين) إن ما بين تسمية المسلسل بـ"خيانة وطن" وعنوان الرواية الأصلي "ريتاج" مسافة تعود إلى أن تسمية الرواية في البداية كان المقصود منها التوجه إلى الشباب في إطار اجتماعي رومانسي بعيدًا عن أي عنوان صادم أو لافت، أيضا كان لابد أن أراعي في تسمية الرواية أن يكون لطيفًا وجاذبًا بحيث إذا رآه الشاب أو طالب بمدرسة في مكتبة أو في معرض الكتاب يستطيع أن يشتريه بسهولة ودون أن يثير في ذهنه أي تصورات ضخمة مثل لو كان الاسم مباشرة "خيانة وطن" أو "أمن دولة" مثلًا.
بدأت الرواية بتمهيد اجتماعي عام قبل أن تدخل إلى صلب موضوعها الأساسي وهو توثيق الحدث الكبير بكشف التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين في الإمارات والحكم عليهم، ولفت الحمادي إلى أن "بداية المسلسل تختلف عن بداية الرواية، وهذا أمر متعمد لإضافة حبكة مشوقة للمسلسل في بدايته، وطبعًا كان هناك اتفاق على الأحداث والشخصيات والأحداث الجانبية والنصوص"، مضيفًا أنه "من خلال الرواية نحاول أن نوصل رسالة مهمة، وواضحة للجمهور ونسعى لكشف العديد من الحقائق بخصوص قضية تنظيم الإخوان المسلمين، رسالة أساسية فحواها أنه أحيانًا عائلات العناصر المرتبطين بالتنظيم لا علاقة لهم بما يرتكبه المتورطون، ولا يجب تحميلهم أي نوع من الذنب لما اقترفه أزواجهم أو أقاربهم".
aXA6IDE4LjIyMC4yMDYuMTQxIA== جزيرة ام اند امز