من العناصر الرئيسية التي لا يسلَّط عليها الضوء بالقدر الكافي إشكالية استمرار اللغة القديمة خوفًا من الضياع في لغة كل عصر.
عوامل الجمود في الخطاب والفكر الديني عديدة ومتنوعة، ومن العناصر الرئيسية التي لا يسلَّط عليها الضوء بالقدر الكافي إشكالية استمرار اللغة القديمة خوفًا من الضياع في لغة كل عصر واستعارة لغة التجديد من الغرب ولغة خاصة بالنخبة الدينية لا يفهمها العامة، ومن جهتهم مفكرو التنوير في المجتمع في معزل عن الجميع، مما شيّد جدار فكر فاصلًا بين كل الأطراف، لكل طرف مجموعات تابعة له تشبه الحلقات حول الدائرة، ومركز الدائرة مغلق لا يصله الجميع فكيف يكون في المجتمع تنوير سواء كان دينيًّا أو غير ذلك، ونشأت على أثر تلك البيئة الطاردة للفكر المستنير مفاهيم مثل: دعاة لا قضاة، والمجتمع الجاهلي، والهجرة والتكفير، وتحرير الدين من براثن الشرك الجاهلي، والفئة المنتصرة، وحزب الله، وحماة السنة النبوية، وجيش محمد، ومسميات وجماعات وتنظيمات وأحزاب عديدة كلها يدّعي الفهم المثالي للدين، وتدور في فلك لفظ المعاني، والمعنى الثابت والمقاصد، متناسين أن مقاصد الشريعة أساسها مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها فكيف تخرج منها فتاوى القتل والتكفير والثورة على مبادئ وقيم المجتمع الإنساني المجمَع عليها ليرسموا لأنفسهم خطًّا منفردًا ويصرّون على التمسك بالموروث وفق فهمهم فقط وإصدار شروحات ومفاهيم تنبثق منه وترفض الجرح والتعديل في ما وجدوا عليه آباءهم واعتبار التجديد في الخطاب الديني شِركًا.
فكل فعل وقول لم يقرّه الإمام أو فقيههم أو مؤسس الفكر الذي يتبعونه بدعة وتقسيمات تتحدث بلغة "نحن على حق وأنتم على خطأ"، ولذلك ما نحن عليه اليوم لم يفعله الغير بنا بل هو ما فعلناه بأنفسنا، وأكثر المذاهب والمدارس الفقهية قبولاً اليوم لا تخلو مما يحتاج إلى مراجعة موضوعية والإقرار الصريح بمحدودية وقصور التأويل البشري، وبالتالي حتمية الغلو أو الفهم بصورة تؤدي إلى التطرف بصورة أو بأخرى من قبل بعض تلاميذ ومتّبعي تلك المدارس والرموز والمذاهب وخطف الدين، وأصبحنا في حصار من عدو خارجي وداخلي ناهيك بعدو داخل كل شخص فينا اسمه رفض التغيير في غياب منطق اتصالي وتدرجي في فهم الأمور، ونفخر بأن لدينا حدية وبأننا لا نقبل المختلف ونزدريه، فظهرنا بشعارات قومية مختلفة كأننا بذلك وضعنا أيدينا على الداء العضال وقوميتنا هي الحارس على هويتنا فضيعنا الاثنتين معًا بالتعصب وضيق الأفق.
من جانب آخر فإن التنوير الديني خاض فيه عديد من المفكرين وعلماء الدين والمهتمين بالشؤون الإسلامية وعلماء العلوم الإنسانية المختلفة وتبقى معضلة التنوير الديني أنه يُفصل عن باقي محاور التنوير كأنه يمكن أن يقوم بمفرده دون التنوير السياسي أو الثقافي.. إلخ، لإحداث إصلاح حقيقي، والسبب في ذلك يعود إلى تداخل المصالح السياسية والاقتصادية وغيرها بين الأمم والمؤسسات والأفراد، والأمر الآخر هو ضرورة قبول العلمانية بمفهومها الصحيح لا كما يتداوله رجل الشارع البسيط ويفهمها من يتلقى المعلومة دون أن يبحث عن مصدرها وتداعياتها، فالعلمانية باختصار هي الحكم على أساس المواطنة والكفاءة ولا تعني نهائيًّا إبعاد الدين عن الحياة، فالعلمانية هي التي ألغت العبودية بقانون، وألغت التفريق بين الرجل والمرأة، وألغت ممارسات عديدة لا يتقبلها عقل هذا العصر ويرى فيها تعدّيًا على إنسانية الإنسان ولا يوجد شخص يفكر بالبدل أو بالنيابة عنّا، وحرية الفكر هي ما يخيف المتشددين والتقليديين، حيث إن مفهوم التنوير والأنوار ليس له بعد تاريخي ملموس في الثقافة الإسلامية، وكان التنوير يُختصر في الإيضاح والشرح، بينما كلمت الأنوار كانت تستخدم خصوصًا لدى المتصوفة، ولكن ليس لها علاقة بتراث التنوير الحديث والخروج من حال لحال والتحرر من الوصاية ورفض الخضوع للعقل الجماعي تلقائيًّا دون تفكير ونقد.
وكما هو الحال لدينا فإن أي فكر أو مفهوم أو مبدأ أو رأي ليس له مرجعية وثوابت عند العقل الجماعي لنا كمسلمين أو عرب لا يعتبر مقبولًا ويُرمى الشخص بالكفر أو المجون الفكري وبأنه خرج عن التبعية وعن الجماعة فيضرب العقل بصك مختوم من قبل نظام التفكير الديني في مجتمعاتنا على وجه الخصوص، كونهم أهل التخصص، كأن الدين من علوم الرياضيات ويخضع لقوانين مخبرية وأرقام نتائجها متوقعة كعمليات الجمع والطرح والتضييق على ما وصل لدينا في منتصف القرن التاسع عشر من بواعث بدايات تنوير حقيقي على يد مفكرين إسلاميين بارزين مثل رفاعة الطهطاوي والإمام محمد عبده، وفي عصرنا الحالي عديدون تُوصف أعمالهم بالزندقة أو الخروج عن المألوف، ليجسد واقع القهر الفكري التنويري في أمة منكوبة معرفيًّا ويغشاها نظام الوعي الزائف ليستمر الخلل البنيوي في محاولات إعادة حقيقية لإحياء العلوم القيمية الفلسفية والتخلص مما يجثم على صدورنا من رفض كل ما هو جديد ومغاير للمعايير التي وُضعت بعد 400 سنة من وفاة سيدنا محمد، وعدم استحداث أو وجود نموذج يجسد التقدم وفق رؤية محلية تعكس حضاراتنا ولا تغفل عن إنسانية الطرح وشموليته، وأما خرافة أن الإسلام من أسباب التراجع الحضاري فهو كلام مرسل ومردود عليه، كما يكذّبه ما أنتجته الحضارة الإسلامية، ولكن إنْ قلنا إنّ الإسلام الوضعي من أسباب التراجع فيصعب أن نقول إن ذلك الرأي لا يحتمل الصحة، وإذا ما نظرنا حولنا سنرى ذلك جليًّا، فمن منطق القوة إلى احتكار إلى فساد إلى إرهاب إلى ضعف معرفي وقلة إنتاج وجفاف بحثي وقيم أخلاقية ومبادئ انتقائية وتعصب عرقي وإقليمي.. والقائمة تطول.
فالإسلام لم يأمر بالعمل بل بإتقان العمل والإحسان في كل شيء نقوم به، والإسلام دين الجودة الشاملة والتميز والابتكار، ويدعو إلى تعمير الأرض واكتساب المعرفة، ويقول اعملوا وعليكم شهداء، ولكن أين نحن من هذه المبادئ الربانية الراقية؟ وكيف أبدلنا بها الدين البشري وتفسيرات أفرزت من رحمها دينًا إسلاميًّا كهنوتيًّا رفع ما جاء به البشر إلى منزلة التقديس فوقعنا في فخ أن يتحول الدين إلى أيديولوجية ومن تقدم وحركة إلى الأمام إلى قضية الاتكالية الممثلة في مفاهيم القضاء والقدر والتوكل دون عمل وجعل العقل البشري حجة على النص القرآني؟
فتصور أن يقال لك إن القرآن حرّم الخمر بالتدريج ولم يحرّمه مرة واحدة بصورة قطعية لأن العرب كانوا يحبون معاقرة الخمر وكان من الصعب عليهم أن يتركوا تلك العادة فجاء التدرج في تحريم الخمر، وإذا قبلنا بهذا الطرح وقلنا إنه منطقي فأين المنطق في أن الزنى وكان منتشرًا بكثرة وشهوة بشرية طاغية، والجنس من أكبر متع الدنيا، ينزل به تحريم مباشر وقطعي، والعرب سيتركون ذلك الفعل ولا يستطيعون أن يتركوا الخمر مع أنه في ذلك الوقت الفعلان كانا مرتبطين بعضهما ببعض بصورة وثيقة ويصعب فصلهما؟ وهل من المنطق أن يخاطَب المؤمنون وليس المسلمين بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى وذلك يعني الثمالة من شرب الخمر وليس السكْر الذي ورد في القرآن في عدة مواقع يدل على الخوف والاضطراب وغيره من المشاعر التي تُذهب العقل من هول الحدث (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) فالله تعالى يخاطب المؤمنين بهذه الآية ونحن هنا نتحدث عن المؤمنين؟ وما معنى المؤمنين؟ وهل يصل الشخص لمرحلة الإيمان وهو يشرب الخمر؟ وتتساءلون ما سبب تراجع العقل المسلم؟! ونحن نقول إن المؤمن كان يسكر وفق التفسير التقليدي.
إن القرآن خارج الوقت والمكان، وهو كلام الله الكامل المنزّه عن تخاريف البشر، والتأويلات أمر متغير بتغير الزمن ولذلك جعل الأمر مفتوحًا ولا يتوقف على تأويل شخص في عصر ويؤخذ حجةً على المسلمين حتى قيام الساعة، فلنتفكر كي لا نصبح دعاة تنوير، بل صناع تنوير لفك أسر الفكر الإسلامي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة