الحقيبة لها مواصفات معينة، وتكون ثقيلة خصوصًا في بداية الرحلة، ويجب أن تظل ملاصقة لحامل الحقيبة طوال الوقت حتى في أثناء النوم.
كنت في مهمة دبلوماسية خاصة أحمل حقيبة دبلوماسية حين مررت بتلك التجربة في مطار مونتريال في خريف عام 1987، وهذا النوع من المهام قد انقرض إلى حد كبير ولكنه كان إحدى وسائل التواصل مع بعثاتنا في الخارج، حيث يقوم حامل الحقيبة الدبلوماسية بالمرور على عدد متجاور جغرافيًّا من تلك البعثات كي يسلم باليد كل بعثة خطابات على درجة عالية من السرية لا يؤتمن على إرسالها عبر الحقيبة الدبلوماسية غير المصحوبة.
والحقيبة لها مواصفات معينة، تكون ثقيلة خصوصًا في بداية الرحلة، ويجب أن تظل ملاصقة لحامل الحقيبة طول الوقت حتى في أثناء النوم، ولذلك تقوم وزارات الخارجية بوضع خطاب يرفق على الحقيبة بشكل ظاهر يخاطب سلطات الدول المختلفة ويحدد أن هذه الحقيبة هي حقيبة دبلوماسية لا يجوز فتحها. عندما كنت في الطابور لاحظت أن أمامي سيدة شقراء عجوزا تلتفت وتنظر إليّ وإلى الحقيبة الدبلوماسية بريبة، وكنت أبتسم لها مجاملًا كلما التقت عيوننا، ولكنها لم تكن ترد المجاملة، وعندما اجتازت بوابة التفتيش لم تواصل سيرها إلى قاعة السفر مثل باقي الركاب ولكنها وقفت تنظر وتنتظر متحفزة.. وكالعادة مرت الحقيبة الدبلوماسية فوق السير، وعندما طلبت الضابطة الشابة أن أفتحها لها، اعتذرت مشيرًا إلى الخطاب المرفق بالحقيبة، ولكن فيما يبدو أنها كانت حديثة التعيين أو لم تمر عليها حقيبة دبلوماسية من قبل، واضطررت إلى أن أشرح لها بالتفصيل طبيعة مهمة حامل الحقيبة، والعرف الدولي في هذا الشأن، وبالطبع أدى ذلك إلى تعطل حركة الطابور وتأفُّف البعض، وعندما أوشكت الضابطة الشابة على أن تقتنع فوجئت بالسيدة العجوز التي كانت تراقب من قرب تصرخ بأسلوب مبالغ فيه وتطالب بضرورة تفتيش حقيبتي وتغمغم بأن الإرهابيين في كل مكان..
فوجئت بأن الضابطة التي كانت على وشك الاقتناع، تتصلب وتصر على فتح الحقيبة، وفى نفس الوقت كانت السيدة العجوز قد نجحت بصياحها في لفت النظر وبالتالي انضم إليها ركاب آخرون يطالبون بضرورة فتح حقيبتي الدبلوماسية، في البداية حاولت أن أشرح لهم طبيعة المهمة، ولكنني فكرت في أن ذلك سوف يزيدهم تشددًا ويزيد الأمر تعقيدًا، من ناحية أخرى كنت أعرف أن محتويات الحقيبة لا تزيد على كونها مغلقة بها خطابات، وخطر لي أن أفتح الحقيبة بالفعل كي ينتهي ذلك الموقف السخيف، ولكنني شعرت بالغضب من التعليقات التي واصلت تلك السيدة العجوز الصياح بها، خصوصًا عندما تحدثت بشكل غير لائق عن أهل الشرق الأوسط والعرب، وكان الجميع قد عرف أنني دبلوماسي مصري، وجدت نفسي أصمم على أنني لن أفتح الحقيبة، وأن حقي القانوني هو أن تحترم سلطات المطار ذلك العرف الدبلوماسي القديم، وطلبتُ من الضابطة الشابة أن تتصل برئاستها، ورفضتُ طلبها أن أتنحى جانبًا إلى نهاية الطابور، وقلت لها بوضوح إنها لا تفهم عملها وإنني لن أتحرك من مكاني إلا بعد وصول مسؤول أعلى.
ومرت دقائق ثقيلة قبل أن يصل ضابط سمين أبيض يتصبب عرقًا، وكان يلهث بينما الضابطة تشرح له، بل وتدخلت السيدة العجوز أيضًا، سألني الضابط بنعومة عما إذا كنت أصر على عدم فتح الحقيبة، وبالتالي أتحمل مسؤولية عدم سفري على الطائرة، فأجبته بشكل حاسم بأن الطائرة لو فاتتني فإنني أحمّل سلطات مطار مونتريال المسؤولية، وأطلعته على الخطاب المرفق مع الحقيبة، وكان من الواضح أنه يدرك أحقيتي في رفض فتح الحقيبة ولكنه كان يحاول إرضاء باقي الركاب خصوصًا السيدة العجوز الملعونة، وعندما لاحظت تردده، كررت عليه تحذيري وبشكل قاطع بأنني أحمّله مسؤولية تأخيري، فأشار بيده سامحًا لي بالمرور دون تفتيش.
كانت السيدة العجوز قد توجهت لتجلس في ركن من قاعة الانتظار، فاتجهت إليها وجلست إلى جوارها مباشرة، وهمست لها من بين أسناني متصنعًا الجدّية: «على فكرة، أنا أحمل قنبلة في الحقيبة»، تراجعت السيدة في مقعدها منزعجة وهي ترتجف وتطلب مني الابتعاد عنها، ولكنني ابتسمت وبدأت أوجه إليها أسئلة عن أسباب هذه الصورة الذهنية عن العرب والمسلمين، ودار حديث طويل بيننا لا مجال له هنا، المهم هو أنه عندما كنا نتوجه معا لركوب الطائرة كنا نضحك كأننا صديقان حميمان وسط دهشة باقي الركاب...
بعد هذه الواقعة بعشرين عامًا كنت ضمن وفد دبلوماسي مصري في مهمة إلى واشنطن، وبالطبع كانت مياه كثيرة قد جرت تحت الجسور خلال تلك السنوات، أبرزها بالطبع العملية الإرهابية الضخمة التي استُخدمت فيها الطائرات المدنية لهدم برجي التجارة العالميين في نيويورك، وجزء من مبنى "البنتاجون" في واشنطن. وبعد أن انتهينا من مهمتنا في واشنطن، توجهنا ومعنا بعض ممثلي السفارة إلى المطار للمغادرة عائدين إلى مصر، وقد حرصت الخارجية الأمريكية على أن يرافقنا دبلوماسي أمريكي كي يساعد في تيسير الإجراءات، بعد أن شكونا في أثناء المباحثات ما حدث عند وصولنا من تأخير في إجراءات المطار..
مررنا عبر بوابة التفتيش واحدًا إثر الآخر، بعد أن خلعنا كل ما يمكن أن يتسبب في صفير جرس الإنذار، إلا أن أحد أعضاء الوفد وكان سفيرًا محترمًا كلما مر من البوابة صفر جرس الإنذار، فطلبوا منه العودة وخلع الجاكيت والحزام، إلا أن الجهاز أصدر جرس الإنذار، وعاد مرة أخرى وطلبوا منه خلع الحذاء، فخلعه ولكن الجهاز واصل الطنين، والزميل العزيز يتصبب عرقًا بينما ضابط زنجي ضخم يقوم بتفتيشه ذاتيًّا، قلت لأعضاء سفارتنا أين هو ممثل الخارجية الأمريكية كي يتدخل؟ فأشاروا إليه فوجدته يخلع ملابسه ويخضع لتفتيش ذاتي عندما أراد أن يدخل للمساعدة، وتأزم الموقف حيث لم يعد للسفير العزيز ما يمكن أن يخلعه، ولا يزال الجهاز يصفر كلما مرّ من البوابة، ورغم الضيق وجدت نفسي أغرق في الضحك، وقلت للضابط الزنجي: «أظن أن الممنوعات تتركز في رأسه، في أفكاره، ولا أعرف كيف يمكن نزع هذه الأفكار».. ويبدو أنه استملح النكتة، فقد ابتسم وهو يفرك فروة رأسه متحيرًا، وربما اقتنع بالفعل بأن «الممنوعات» هي الأفكار في رأس زميلي العزيز، حيث فوجئنا به يسمح له بالمرور وهو يدقّ بكفيه متعجبًا..
* ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "الأهرام" وبوابة "العين" الإلكترونية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة