بقدر القواعد الحديثة تكتسب النظم قوتها واستقرارها وصورتها في التاريخ، أخطر ما يعترض النظام الحالي غياب أية قواعد في الإدارة السياسية.
لكل نظام تحدياته وانحيازاته ووجوهه وأسلوبه في صناعة قراراته، بقدر القواعد الحديثة تكتسب النظم قوتها واستقرارها وصورتها في التاريخ، أخطر ما يعترض النظام الحالي غياب أية قواعد في الإدارة السياسية.
كل شيء يبدأ وينتهى عند رجل واحد، الحكومة تنتظر التعليمات دون شراكة حقيقية في صنع السياسات العامة والبرلمان تعلن أغلبيته الساحقة الموالاة الكاملة استنادًا إلى الثقة وحدها.
الثقة على أهميتها لا تؤسس لدولة حديثة يتسع فيها المجال العام، ويلتزم الأمن حدوده الدستورية وتتوازن مؤسسات الدولة.
عندما تفقد الدولة طبيعتها الحديثة فكل شيء معلق على مجهول، لابد أن نصارح أنفسنا بالحقائق قبل أن تداهمنا بأخطارها.
هناك تدهور غير مسبوق في الطبقة السياسة وتراجع فادح في الخطاب السياسي، السياسة نفسها تكاد أن تنقرض في المشهد العام، هذا وضع لا يستقيم ولا يمكن أن يستمر في دولة عريقة بحجم مصر، وهو عبء لا يحتمل على قدرة نظام الحكم الحالي في ضبط الإيقاع العام لتفاعلات مجتمعه، بصراحة كاملة الاستغناء عن الوسائل السياسية مشروع اضطرابات مستعجلة، فكرة المعارضة نفسها تكاد أن تكون قد توارت خلف ستائر كثيفة، لا يوجد نظام قوى بلا معارضة قوية، هذه قاعدة استقرت في الديمقراطيات الحديثة، غياب المعارضة أزمة حقيقية في بنية الحكم كشفت عنها الانتخابات النيابية الأخيرة، لم تكن هناك منافسة انتخابية بين برامج سياسية بقدر ما كانت سباقًا على شراء النواب والناخبين معًا، ولا كانت هناك معارضة على أي نحو مؤسسة على رؤى مغايرة لما يتبناه نظام الحكم بل سباقًا آخر لطلب الموالاة بلا أي مسوغات من تصورات، موالاة بلا تصور مشروع حزب سلطة تقليدي.
كالعادة فمثل هذه الأحزاب لا تصمد لاختبارات الزمن، رغم أية تحفظات جوهرية على طبيعة البرلمان فإنه يوفر فرصة لاختبار أخير للخيارات والانحيازات، لم يعد ممكنًا الرهان على النوايا وحدها بعد ما يقرب من العام ونصف العام من رئاسة «عبدالفتاح السيسى» هو مطالب أمام نفسه قبل الآخرين أن يكشف طبيعة نظامه وأين يقف بالضبط، ما قاعدته الاجتماعية التي يدافع عن مصالحها ومدى التزامه بالشرعية الدستورية التي تستند على ثورتين.
بصيغة أخرى فهو أمام اختبار صعب في الإدارة السياسية للعمل البرلماني، وفق النص الدستوري يتمتع المجلس النيابي بصلاحيات واسعة غير مسبوقة تضمن التوازن مع السلطة التنفيذية، غير أن هذه الصلاحيات الدستورية سوف تعطل بطبيعة تشكيل المجلس، لا متاح أن يلعب دورًا في اختيار الحكومة، ولا أن تجرى معه أية مشاورات بشأنها ولا مطروح أن تشارك الحكومة في صنع السياسات العامة وفق الدستور.
ورغم أن الأحزاب حازت رسميا نحو نحو (٤٠٪) من مجمل أعضاء البرلمان إلا أنها تمزقت بين أقليات متفرقة، أقرب حزبين إلى بعضهما الآخر «المصريين الأحرار» و«الوفد» حازا معًا «٨٨» مقعدًا وهو نفس الرقم الذى حصدته جماعة الإخوان المسلمين في انتخابات «٢٠٠٥»، مع ذلك يكاد يستحيل دمجهما في كتلة ليبرالية واحدة، تكاد لا توجد أحزاب حقيقية تحت قبة البرلمان، أغلبها اختارت مرشحيها وفق دراسات جدوى لفرص النجاح تولاها باحثون مخضرمون ومراكز استطلاع رأى.
الأحزاب تخوض الانتخابات في أي تجربة نيابية بالعالم وفق برامج تتبناها كوادرها لا باستعارة مرشحين من خارجها مقابل دعمهم بالمال للدعايات الانتخابية، يصعب الحديث عن أي تماسك تنظيمي وسياسي لنواب الحزب الواحد، بعض الأحزاب أمنية بالمعنى الحرفي، وهذه لا يعول عليها في أداء أي دور سياسي له قيمة وتأثير، وبعضها الآخر تجمعات مصالح مؤقتة.
الأكثر إثارة أن بعض المستقلين حزبيون مستترون فضلوا الترشح بهذه الصفة؛ لأن أحزابهم ضعيفة لا تقدر على أي دعم مالي وسياسي.
الأوضاع كلها غير طبيعية في برلمان يفترض أنه يستكمل لأول مرة مؤسسات الدولة منذ خمس سنوات، في تشوه التكوين البرلماني مشروع فوضى سياسية تسحب من الرصيد العام للنظام، بعض المهرولين إلى حيث تقف السلطة سوف يفترضون أن ما يقولونه هو خط الرئاسة واستراتيجية الدولة، كأننا أمام عشرات السياسات والمواقف والتناقضات كلها باسم الرئيس.
هناك من يسب «يناير» كأنها مؤامرة ويعلن انتسابه لـ«يونيو» كأنها ثورة مضادة، وهناك من يدافع عن الأولى ويعتبر الثانية تصحيح وتصويب للمسار لا انقلاب عليه.
لا يكفى أن يقول الرئيس بوحدة الثورتين وأنه لا عودة للوراء إذا كان بعض الذين يحسبون عليه سوف يحاولون بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة تصفية الحسابات مع «يناير» وإعلان الولاء للماضي برموزه وسياساته، إنه مجرد مثال للفوضى المحتملة تحت قبة البرلمان، إذا لم تكن هناك إدارة سياسية لكتلة الموالاة الزائدة تحد من انفلاتاتها المتوقعة، فإن رصيد الشرعية قد يتضرر بفداحة، هذا وقت الاستحقاق السياسي الذى لا وقت بعده.
يستحيل الوفاء بمهام هذا الاستحقاق إذا لم يتسع النظام الذى يبدو ضيقًا للغاية، وينفتح على السياسيين من جميع الاتجاهات والمدنيين من كل الخبرات.
ضيق النظام من الأسباب التي تفضي إلى عدم القدرة على الإدارة السياسية للبرلمان بأي قدر من الكفاءة، مثل هذه الإدارة تقتضى أولًا رد اعتبار السياسة ووسائلها وتوسيع دائرة صنع القرار وضم كفاءات ذات طبيعة سياسية في بنية مؤسسة الرئاسة.
لا أحد بوسعه أن ينكر الأثر السلبى لغياب المستشارين السياسيين القادرين على الحركة والتفاعل وصنع التوافقات العامة، سوف يكون خطأ قاتلًا إسناد المهمة للأجهزة الأمنية في إدارة البرلمان.
في كل التجارب البرلمانية السابقة لعبت هذه الأجهزة أدوارًا في المساندة والاختراق، لكنها لم تتصدر المشهد أبدًا كما يحدث الآن، إذا غابت الوسائل السياسة فمن غير المستبعد تفلت كتلة الموالاة الزائدة عن أي قيد وتستحيل صراعاتها الداخلية إلى اشتباكات على المناصب والحصص والنفوذ كأنها مراكز قوى جديدة في نظام بلا كتالوج.
من جلسة البرلمان الأولى تبدأ التحديات السياسية الحقيقية، بقدر التفلت البرلماني من كل قواعد تتفكك الثقة العامة في النظام.
وبقدر التغول في التشريعات على حقوق المواطنين الاجتماعية تنتقل التفاعلات إلى خارج البرلمان، بسيناريو أو آخر سوف تنشأ معارضة رمزية تحت القبة ومعارضة قوية خارجها، بعض المعارضة قد تضاهى بعض الموالاة في عشوائيتها، العشوائية السياسية صدامات في الظلام فلا أحد يعرف من مع من ولا من ضد من، الصدام العشوائي من التبعات المحتملة لغياب أي كتالوج لنظام الحكم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة