لا جديد في وقائع القتل التي جرت الأيام القليلة الماضية داخل أقسام شرطة، موزَّعة على أنحاء الجمهورية.
لا جديد في وقائع القتل التي جرت الأيام القليلة الماضية داخل أقسام شرطة، موزَّعةً على أنحاء الجمهورية؛ شرقًا وغربًا، شمالًا وجنوبًا. لا جديد في تصريحات المسؤولين التي تؤكد أن القتل تعذيبًا هو فعل فردي استثنائي، لا يمثّل قاعدة رغم التكرار. لا جديد أيضا في أن يقوم مسؤول رفيعٌ من وزارة الداخلية بمُداخلة تليفزيونية على الهواء مُباشرة، ليوضح للناس أن القتلى لم يُعَذبوا، وإنما أصابهم الإعياء بعد أن أُلقى القبض عليهم، فسقطوا جميعا موتى؛ قدرًا لا جُرمًا.
الجديد والعجيب هو تلك الوقفة التي قام بها ضباط وأمناء شرطة، وعلى رأسهم مدير أمن الأقصر، مُعلنين اعتذارهم إلى أهالي رجل من الضحايا. لم يكن الرجل ثريًّا من الأثرياء، ولا هو صاحب سلطة ونفوذ، أو وجيه من الوجهاء... سائق عادى، مواطن متوسط الحال ندر أن يحظى مثله باهتمام من المسؤولين، مع ذلك وفى حين غضّت الداخلية بصرها عن ضحايا آخرين، وأشاحت بوجهها بعيدا عن دمائهم، فقد انتفضت لمقتل الرجل الأسمر، وانطلق أفرادها يرفعون لافتات الأسف، ويقدمون واجب العزاء لعائلته.
ثمة فجوة شاسعة بين مَسلَك الشرطة تجاه أسرة "طلعت شبيب"، ومسلكها تجاه ضحايا شبين والمطرية وعديد الأقسام التي عُذِّب فيها مواطنون حتى قضوا نحبهم، ولم ينل ذووهم أي حق، ولا أي شكل من أشكال الاعتذار. فجوة تشير بطبيعة الحال وكما نعرف ونفهم جيدا، إلى أن الشرطة لا تأسف على ضحايا التعذيب كما تدّعى، ولا تستنكف ممارسات أفرادها الوحشية في كل مكان وزمان، لكنها قد تنتقي في بعض الأحيان مَن تترحم على موتهم، وتطلب الصفح عما اقترفته اتجاههم.
ما دفع الشرطة إلى الإسراع بالاعتذار ومحاولة تطييب الخواطر في هذه الحال، ربما يكمُن في معطيات الجغرافيا والتاريخ، وما ارتبط بهما من ثقافة وتقاليد على قدر وافر من الخصوصية. نعلم أن القتل يستدعى في صعيد مصر الثأر، والثأر يُؤخَذ ولو بعد حين، وإلا ظل عارًا في جبين أصحابه. في اتصال هاتفي ببرنامج تليفزيوني ذائع الصيت، وبعد أن سألها المذيع عن الحُكم الذي ترتضيه، قالت «أم أحمد» شقيقة الرجل القتيل: «القصاص». لم يفهم المذيع أو ربما ادّعى عدم الفهم، وعاد يسألها عما تعنيه بالقصاص، عرض عليها سجن الجاني خمس سنوات، ثم زادها إلى عشر، فأجابت في حسم: «لا ما يرضيناش.. القاتل يُقتل.. إعدام.. أخويا مايكفيناش فيه عشرين واحد.. أصلا لولا ما مسكوه أربعة أو خمسة وفيه ناس اعترفت عليهم ما كانوا قدروا عليه، هو أصلاً شجاع وراجل، مات راجل وعاش راجل.. أصلاً لما هو نضيف وشريف الضابط بيكلمه وضربه قلم، هو ضربه قلم وتف عليه»، قالت المرأة إنها ترتضي حكم القضاء فقط لو جاء مُنصِفًا: «بس يكون حكم عادل.. مافيش قصاص هناخد قصاصنا بإيدينا واحنا صعايدة وماحدش يقدر علينا».
راحت المرأة ترفض بإصرار كل المساومات التي قادها المذيع، وفى قوة وكبرياء قلّ أن يبديهما شخصٌ في مواجهة سُلطة لا تتورع عن ارتكاب مزيدٍ من الجرائم، أنهت حديثها دون أن تهتز ودون أن تتغير نبرة صوتها، أو يظهر فيها ضعف أو تتلون ببادرة نواح: «القصاص.. وأنا باحلف لك يمين مَرَة صعيدية ما يمين راجل، لازم القصاص.. دم أخونا مايروحش هدر».
إذا جازت المقارنة بين خطاب «أم أحمد»، وخطاب الزوجة المكلومة التي قضى زوجها تعذيبًا في الإسماعيلية، والتي هددت بالانتحار ما لم تنل حقه، لظهرَ المشهد جليًّا واضحًا، وأمكن تفسير رد الفعل المدهش الذي قامت به وزارة الداخلية. أطلقت المرأتان تهديداتهما؛ واحدة بأن تقتصّ من القاتل، والأخرى بأن تنتحر، وفارق شاسع ما بين التهديدين، الأول يُخيف، والثانى مُستطاب. هكذا اعتذرت الشرطة في الحالة الأولى خوفًا لا ندمًا، وفزّت واقفة ذعرًا وتوجسًا لا أسفًا، وحملت كفنها الرمزي بغية اتقاء العواقب الوخيمة، لا خجلا مما اقترفت.
تظاهر أهالي الضحايا في أماكن متعددة، لكن السلطة تعلم أن هناك مَن يستعصي عليها إسكاتهم، ومَن قد لا يقف غضبهم عند حدود، ومَن لا يحنون الرؤوس وإن مارست ضدهم صنوفًا من القمع. رفض مواطنو الجنوب قبول اعتذار الشرطة ووقفتها، ورفضوا قبول عزاء مدير الأمن ذاته، وقد نشرت الصحف أن الضابط الذي اتُّهم بتعذيب شبيب وقتله، نُقِلَ من مكان عمله مراعاة لشعور الأهالي، لكن سبب النقل يبدو عصيًّا على التصديق، فكم بقى مُتهم بالتعذيب في مَحل عمله، ومارس ضغوطه على مَن لم يمت من ضحاياه، أو على ذوي قتلاه، وأرغمهم على الخضوع لسلطانه. كذلك نشرت الصحف صدور تعليمات من وزارة الداخلية، بتقديم مَن تورطوا في واقعة الأقصر لمحاكمة عاجلة، لكن "الداخلية" لا تحمل اللافتات لكل ضحية تقتلها، ولا تتعهد في كل مرة بتقديم الجاني للعقاب، لا تقف وتلين إلا للقوي، كأنها دعوة لأن يكشر المواطنون عن أنيابهم في مواجهة بطشها.
أمام يمين امرأة صعيدية أصابها الضيم والجور، وقَرَ في صدرها الغليل، واعتزمت تحقيق العدل ولو بيديها، تسقط ترهات العقد الاجتماعي الذي صار مهترئًا مضعضعًا، ومع شمس الجنوب الحارقة تتبخر هيبة الدولة المزعومة وتظهر سيوفها المشرعة في وجوه الناس كما لو كانت من ورق. في النهاية تبقى على الأرض دماء، وأظن أن بعضها لن يجفّ أبدًا.
* يُنشر هذا المقال بالتزامن في جريدة "الشروق" المصرية وبوابة "العين" الإلكترونية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة