بريطانيا تدير ظهرها لأوروبا، وتضعها في اختبار صعب، وتمنحها فرصة ابتكار أوروبا شبه مركزية
المملكة المتحدة تصوت على مغادرة الاتحاد الأوروبي، وديفيد كاميرون يستقيل بعد استفتاء تاريخي، حيث اضطرته النتائج إلى التنحي، فهل هو انتصار «اليمين المتطرف»، الذي أثار مخاوف الشعب الإنجليزي بشأن الهجرة والاقتصاد؟
لقد تعالت أصوات القومية البريطانية التي تطالب بعودة بريطانيا كلاعب رئيس في السياسة الدولية، وهو الاستفتاء الذي اهتزت له الأسواق العالمية، وانخفض الجنيه الإسترليني على أثره إلى أدنى مستوى له منذ عام 1985.
ومن جهة أخرى، وجد الاتحاد الأوروبي نفسه يواجه المجهول من النتائج المترتبة على هذا الخروج من الباب الكبير، وإنْ كانت إجراءات التنفيذ ستستغرق بعض الوقت، ولكن العملية برمتها خطوة تزيد من عدم اليقين الأوروبي نحو الدول التي ستدرس الحراك البريطاني، وتراقب ما ستؤول إليه الأمور في المنظور القريب والمتوسط لتتخذ بدورها قرارات «الاستفتاءات الشعبية»، ومصير مستقبل الوحدة الأوروبية.
فبخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، تفقد أوروبا الموحدة، ثاني أكبر اقتصاد أوروبي وخامس أكبر اقتصاد في العالم، أي ما نسبته 17% من الاقتصاد الأوروبي، والبعض يرى أن الاستفتاء انتصار للناس العاديين، ضد البنوك الكبرى، والأعمال التجارية العملاقة والأحزاب والأقطاب السياسية ذات الحضور المؤثر في المشهد البريطاني العام، ولكن هناك دولا في بريطانيا العظمى كانت لا تريد الخروج من الاتحاد الأوروبي مثل اسكتلندا وأيرلندا الشمالية اللتين صوتتا لمصلحة البقاء، وهل سيؤدي هذا بدوره إلى تفكك بريطانيا في المستقبل، وخاصة أنها تتكون من قوميات مختلفة، وأتوقع أن تسرع تلك الدول في وضع تشريعات لإجراء استفتاء محتمل للاستقلال، ولن تدع خروجها من الاتحاد الأوروبي ضد إرادتها يمر مرور السلام، حيث صوت الاسكتلنديون على سبيل المثال بنسبة 62% مقابل 38% لمصلحة البقاء في الاتحاد الأوروبي، على النقيض من النتيجة الإجمالية في المملكة المتحدة والتي كانت 52% مقابل48% لمصلحة الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، ومن ناحية أخرى وضع «بنك انجلترا» خططاً للطوارئ واسعة النطاق تحسباً لردة فعل السوق والمستثمرين.
إذاً بريطانيا تدير ظهرها لأوروبا، وتضعها في اختبار صعب، وتمنحها فرصة ابتكار أوروبا شبه مركزية، ولكن هل تعزل بريطانيا بذلك نفسها عن القلب الأوروبي، وهي التي تربطها العديد من الاتفاقيات المشتركة مع الجانب الأوروبي وما يتبعها من التزامات وما تأثير ذلك على المشروعات الصغيرة والمتوسطة، التي كانت مستفيدة من خيارات أكبر؟ وهل سيدفعون رسوم العضوية للسماح لهم بالوصول إلى سوق الاتحاد الأوروبي الموحدة، وهل فعلاً هناك خطة واضحة، أم أنه قرار عاطفي بعد أن نجح «اليمين» البريطاني في تأصيل الكراهية نحو المهاجرين، واللعب بورقة التخويف من التنافس على فرص العمل والسكن وتأثير الهجرة على الهوية الوطنية؟
ويتساءل البعض إنْ كان التصويت مناهضا للمهاجرين؟ فهناك حرب ثقافية قيمية غير معلنة في المجتمع البريطاني نتج عنها مغادرة الاتحاد الأوروبي، وبالتالي توفير التكاليف على الفور، حيث إن البلاد لن تساهم في ميزانية الاتحاد الأوروبي مقابل مزايا مالية من عضوية الاتحاد الأوروبي، مثل التجارة الحرة والاستثمار الداخلي، ذلك لأن السوق الموحدة لا تفرض رسوماً على الواردات والصادرات بين الدول الأعضاء، وفي واقع الأمر أكثر من 50 في المئة من الصادرات البريطانية تذهب إلى دول الاتحاد الأوروبي، وما تأثير ذلك على الاقتصاد البريطاني، مع العلم أن الاتحاد الأوروبي يتفاوض حالياً مع الولايات المتحدة لإنشاء أكبر منطقة تجارة حرة في العالم، وكيف سيؤثر ذلك على رجال الأعمال البريطانيين؟ وما هي آليات مواجهة بريطانيا خطر فقدان بعض من تلك القدرة التفاوضية من خلال ترك الاتحاد الأوروبي، مع أنها حرة في إبرام اتفاقيات التجارة الخاصة بها؟ وسياسياً كيف سيكون حجم النفوذ والتأثير على الأحداث في عالم أكثر تعقيداً وترابطاً من أي وقت مضى؟ والسؤال الأهم هو الأمن الداخلي البريطاني وأهمية الوزن الجماعي للاتحاد الأوروبي عند التعامل مع الطموح الروسي والصيني أو الإرهاب؟
أعتقد أن بريطانيا أمامها نماذج أوروبية عالمية ناجحة على غرار سويسرا والنرويج، وخاصة أنه يتم تصنيع وإنتاج أكثر من 70٪ من الناتج المحلي الإجمالي داخل المملكة المتحدة، ومن الناحية الاستثمارية تملك بريطانيا ثقافة استثمارية رائدة على المستوى العالمي، هذا بالإضافة إلى القيم والقوانين واللغة الإنجليزية والبنية التحتية للاتصالات وجودة الحياة والبيئة الاجتماعية المستقرة، والبنية التحتية للنقل والخدمات اللوجستية، وسنرى خلال السنتين القادمتين إنْ كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قراراً بريطانياً خالصاً، أم بريطانياً يمينياً أميركيا؟
"نقلاً عن جريدة الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة