كانت الأزمة الراهنة امتحانا لرؤساء الدول والحكومات في كل مكان، واختلف أداؤهم من دولة لأخرى وفقا لشخصية القائد ونمط سلوكه السياسي
يقوم القادة السياسيون بأدوار مهمة في حياة بلادهم، وفي تحقيق استقرارها الاجتماعي وازدهارها الاقتصادي، وتحديد مكانتها بين دول العالم. وتزداد أهمية هذه الأدوار وإلحاحها في أوقات الأزمات كتلك التي يعيشها العالم الآن إبان أزمة وباء مرض فيروس كورونا، فهذه الأوقات تتسم بالتناقض بين المعلومات المتداولة، والخوف من المجهول، والارتباك النفسي والوجداني، والشعور بفقدان السيطرة على الأمور، واتساع مساحة الغموض والالتباس وعدم اليقين بين الناس، ما يجعلهم يتطلعون إلى قياداتهم العليا طلبا للرأي والنصيحة والأمان.
فماذا يتوقع عموم الناس من قياداتهم؟
يتوقعون منهم معرفة حقيقة ما يحدث ومصارحتهم بمدى الخطورة التي يمثلها هذا الوباء عليهم وعلى أسرهم، ومعرفة خطط الدولة في مكافحة الوباء، والتأكد من أنها تنطلق من فهم شامل لمختلف جوانب خطر الوباء وتداعياته على كل الفئات والشرائح الاجتماعية، وأن تكون السياسات المتبعة مدعمة لوحدة الشعب ولا تثير ما يدعو إلى الفرقة والانقسام.
كانت الأزمة الراهنة امتحانا لرؤساء الدول والحكومات في كل مكان، واختلف أداؤهم من دولة لأخرى وفقا لشخصية القائد ونمط سلوكه السياسي.
ويتوقعون أن يكون خطاب قياداتهم لهم مصدر طمأنة وراحة تعينهم على تحمل الأعباء النفسية المترتبة على إجراءات العزل والحظر والتباعد الاجتماعي، وعدم لقاء الأصدقاء والأقارب، وإغلاق أماكن العبادة من مساجد وكنائس. ويتحقق ذلك عندما ينقل القائد لشعبه الإحساس بأنه واثق من نفسه، وأنه يعرف ما يجب أن يقوم به في هذه الظروف دون مبالغة أو تهوين، وأن تتسم رسالته للناس بالوضوح والاتساق وعدم التناقض.
كانت الأزمة الراهنة امتحانا لرؤساء الدول والحكومات في كل مكان، واختلف أداؤهم من دولة لأخرى وفقا لشخصية القائد ونمط سلوكه السياسي. ويمكن أن نقارن في هذا المجال بين أداء رئيسي الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية اللذين تم اكتشاف أول إصابة بالمرض في البلدين في اليوم نفسه وهو 20 يناير 2020. فبينما نجحت كوريا الجنوبية في اتخاذ قرارات سريعة وحاسمة أدت إلى وقف نزيف الإصابات والوفيات، فقد انتشر المرض في الولايات المتحدة وأصبحت أعلى دولة في العالم من حيث عدد الإصابات والوفيات.
فكيف يمكن تفسير ذلك؟ وما هو دور القيادة السياسية فيه؟
في حالة أمريكا، جاء رد فعل الرئيس دونالد ترامب متأخرا. وعلى مدى أسابيع، اتسمت خطاباته" بالإنكار" ونوع من التفاؤل غير المبرر والتهوين من خطر الفيروس، وعدم الالتفات إلى التحذيرات المبكرة بشأنه. ويتفق أغلب المحللين على أنه خالف كل النصائح التي ينبغي على القائد أن يأخذ بها في ظروف الأزمة، فلم يطرح طوال شهر فبراير حتى بداية مارس خطة متكاملة، وأدى حرصه على الظهور والحديث في المؤتمر الصحفي اليومي لمجموعة إدارة الأزمة إلى اتسام مداخلاته أحيانا بعدم الاتساق وعدم الوضوح والالتباس. كما أنه تدخل بالرأي في مسائل فنية، ما أعطى الانطباع بعدم تقديره رأي الأطباء مثل تحمسه لأحد العقاقير كدواء للمرض، أو اقتراحه بحقن المرضى ببعض المطهرات.
ومن ذلك في أكثر من مناسبة انتقد إدارة الرئيس أوباما وأنه ورث نظاما طبيا متواضعا، وأدى ذلك إلى تراشق الاتهامات بين أنصار الحزبين الديمقراطي والجمهوري. واشتبك في خلافات مع حكام الولايات حول السلطات والاختصاصات، وانتقد قرارات بعض الحكام المنتمين إلى الحزب الديمقراطي وشجع المتظاهرين ضدهم الذين خرجوا يدعون إلى التخفيف من إجراءات الإغلاق والتباعد.
وظل يبحث عن "كبش فداء" لتفسير انتشار المرض، فانتقد أداء منظمة الصحة العالمية وأوقف التمويل الرسمي الأمريكي لها، ثم وجه سهامه إلى الصين متهما إياها بأنها ساهمت في انتشار الفيروس بعدم إعلانها مبكرا عن حقيقة ما حدث في مدينة ووهان وعن عدد المصابين فيها، مؤكدا أن الفيروس تسرب من مختبر بهذه المدينة، ما يحمل الصين كامل المسؤولية عما حدث.
وخلافا لذلك، فإن الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي إن اتخذ مجموعة من الخطوات السريعة والمتلاحقة التي اتسمت بالجرأة والاستباق واتخاذ زمام المبادرة. فالتزم بالشفافية في حديثه إلى شعبه وصارحهم بخطورة هذا الوباء، ففي ذلك الوقت كانت كوريا الجنوبية هي الدولة الثانية في العالم من حيث انتشار المرض بعد الصين.
وأكد الرئيس الكوري القيم الجماعية التي تربط أبناء المجتمع، وتدعم تضامنه، مطالبا إياهم بالالتزام والتعاون في تنفيذ الإجراءات الاحترازية. ثم قام بحشد الموارد والطاقات الصناعية في بلاده لإنتاج كميات هائلة من مستلزمات الحماية الشخصية وفي تصنيع أجهزة التنفس الصناعي والعقاقير المساعدة في العلاج. وشجع الشركات العاملة في الذكاء الاصطناعي على تطوير تطبيقات إلكترونية بهدف احتواء المرض وتتبع المشتبه في إصابتهم به.
وكانت النتيجة أنه في يوم 31 أبريل انخفض عدد الإصابات بالمرض إلى "صفر". وكان من شأن سياسات الرئيس الناجحة تعزيز ثقة المواطنين به، فحصل الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس على الأغلبية المطلقة في انتخابات الجمعية الوطنية (البرلمان) التي أجريت في شهر أبريل وهي المرة الأولى التي يحصل فيها الحزب على الأغلبية من 12 عاما، وبلغت نسبة المشاركة في التصويت 66,2%، وهي أعلى نسبة في انتخابات برلمانية من 28 سنة.
واتصالا بهذين المثلين، جاء سلوك بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطاني، متراخيا في البداية، ومن مظاهر ذلك أنه في 3 مارس قام بزيارة أحد المستشفيات وصافح كل من قابله، وكان يكرر وقتذاك أن الهدف هو زيادة مناعة المجتمع ككل وليس عزل المصابين بالمرض.
وفي 16 مارس استشعر الخطر وأصدر قرارات الإغلاق والتباعد التي تبنتها أغلب الدول الأوروبية الأخرى وصولا إلى تبني إجراءات العزل في 23 من الشهر نفسه. وتشاء الأقدار أن يصاب الرجل نفسه بهذا المرض، وأن يتوقف عن ممارسة مهامه لعدة أسابيع.
أما المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فقد كانت أكثر حسما وانضباطا من البداية وأقل ظهورا إعلاميا، واتسمت قراراتها بالاستجابة المبكرة وسرعة التحرك والحسم، خاصة في عمل اختبارات لأعداد كبيرة من الناس، وتنفيذ خطة صارمة للرصد والتتبع، بل فرضت على نفسها الحجر الصحي الطوعي، لتكون قدوة لمواطنيها. وأدى ذلك إلى أن تكون ألمانيا من أقل الدول الأوروبية إصابة بالمرض.
وفي السياق نفسه كان سلوك الرئيس الفرنسي ماكرون الذي أعلن في مارس خطة شاملة أسماها "الصمود" تضمنت الإجراءات الاحترازية المعروفة بما فيها وضع قيود على حركة الانتقال بين المحافظات داخل فرنسا وإغلاق الحدود مع دول الاتحاد الأوروبي.
وأعلن ماكرون استدعاء الجيش لدعم الجهود المدنية في الحرب ضد الفيروس، ودعا الفرنسيين إلى التعبئة وحشد الجهود والوحدة والتضامن. وترتب على ذلك زيادة شعبيته التي وصلت إلى نسبة تأييد 51%، حسب استطلاع الرأي الذي أجرته مؤسسة هاريس في 20 مارس التي تعد نسبة تأييد كبيرة مقارنة بشعبيته في ديسمبر 2018 التي كانت 31%.
وظهرت ممارسات مبتكرة لعدد من القادة، فقامت رئيستا وزراء النرويج والدنمارك بمخاطبة الأطفال وشرح لهم أسباب إغلاق للمدارس، وإجراءات التباعد الاجتماعي بهدف التخفيف من مشاعر الخوف والتوتر لديهم وإعطائهم شحنة من التعاطف والأمل. واتخذت رئيسة وزراء أيسلندا قرارا بمنع التجمعات واتباع قواعد التباعد قبل ظهور أول إصابة بالمرض في بلادها.
ونشطت رئيسة وزراء فنلندا على وسائل التواصل الاجتماعي لشرح أبعاد الأزمة ووسائل الخروج منها. وكانت رئيسة وزراء نيوزيلندا التي جذبت انتباه العالم وإعجابه في مارس 2019، بسبب تعاملها الحاسم والراقي مع حادث الاعتداء العنصري والإرهابي على المصلين في مسجد بمدينة كرايستشيرش، متميزة وسباقة في تعاملها مع الأزمة الراهنة فلم تنتظر لحين انتشار المرض، بل أصدرت قرارات إغلاق المحال العامة عندما بلغ عدد الوفيات 6 حالات. وعندما حل عيد الفصح في هذه الظروف وجهت حديثا تلفزيونيا إلى الأطفال تشرح لهم أسباب عدم الاحتفال بالعيد هذا العام.
وفي تايوان قامت رئيسة الجمهورية على الفور بإنشاء مركز من الخبراء مهمته اقتراح الإجراءات للقضاء على الوباء. وفي الاتجاه نفسه، أكد رئيس وزراء اليونان من البداية أن الرأي الأول في التعامل مع الأزمة هو للأطباء، وأن على السياسيين أن يتبعوا المشورة التي يقدمونها بشأن خطورة المرض وأساليب العلاج.
تفاوت أداء رؤساء الدول والحكومات وكان المعيار في هذا الشأن هو حسن تقدير الموقف، وسرعة الاستجابة في شكل خطط وبرامج، وتعبئة الموارد، وتجميع الناس ودعم تضامنهم، والتواصل الذكي معهم، والاستعداد للمستقبل والتفكير بوضوح في كيفية الخروج من الأزمة ومرحلة ما بعد الأزمة. أي أن يجمع بين صفات الاتزان والحسم والتفاؤل والتعاطف والاستماع إلى آراء الخبراء والمختصين.
الأزمات هي أوقات غير عادية وتتطلب قرارات غير عادية لمواجهاتها. ولذلك في الأزمات تمتحن رؤساء الدول والحكومات
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة