فى أوروبا بالطبع، وكذلك فى أمريكا، كتب الكثير عن البريكسيت، أو قرار الشارع البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبي
فى أوروبا بالطبع، وكذلك فى أمريكا، وبصورة أقل فى بقية أنحاء العالم، كتب الكثير عن البريكسيت، أو قرار الشارع البريطانى للخروج من الاتحاد الأوروبي، كانت تقريبا كل استطلاعات الرأى قد تنبأت بأن نتيجة الاستفتاء ستكون لمصلحة بقاء بريطانيا، خاصة بسبب التكاليف الاقتصادية الباهظة التى ستترتب على خروج بريطانيا، نعرف الآن أن نتيجة الاستفتاء كانت عكس ما قالته استطلاعات الرأي، وقرر الشارع البريطانى الخروج من الاتحاد.
صحيح كانت الغالبية بسيطة، لكن طبقا للقواعد الديمقراطية، فإن القرار أصبح توجيها للحكومة بجب تنفيذه، لذلك استقال رئيس الوزراء البريطانى ديفيد كاميرون، لأنه شعر بأن سياسته فى إقناع الشارع البريطانى بالبقاء فى الاتحاد الأوروبى قد فشلت، وأنه لا يستطيع تنفيذ سياسة لا يؤمن بها، بل يعرف أنها باهظة التكاليف، وقد تكلف بريطانيا نفسها استمرارها كمملكة متحدة، أى تفقد بريطانيا العظمى كلا من اسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وتقتصر على إنجلترا الصغري، تكاليف القرار البريطاني، قصيرة الأمد مثل تدهور الجنيه الاسترليني، أو طويلة الأمد مثل وضع بريطانيا الاقتصادى والسياسى هى كبيرة، وموضع اتفاق عام، لماذا إذن يصوت الشارع البريطانى من أجل البريكسيت؟ من أكثر الأسباب التى تم التركيز عليها والإفاضة فيها، هى عملية الهجرة، أى الهجرة من دول شرق أوروبا التى انضمت إلى الاتحاد الأوروبى أخيرا، والذين يستفيدون إذن من مبدأ حرية التنقل والإقامة فى دول السوق الأوروبية المختلفة، والكثير منهم من الشباب الذين يستقرون فى بريطانيا، ليس فقط للعمل، ولكن لمعرفة اللغة الإنجليزية.
ومن المؤكد أن بعض البريطانيين الذين يسكنون أو يذهبون إلى لندن، لا يروق لهم الشعور بالاغتراب فى عاصمة بلادهم.
ولكن هل هذا فعلا السبب الأهم؟ مواطنو شرق أوروبا ينتشرون أيضا فى فرنسا وألمانيا وحتى فى بلجيكا؟ فلماذا لم يطالب سكان هؤلاء البلاد بالاستفتاء على البقاء فى الاتحاد الأوروبى من عدمه؟ ثم هناك لغز آخر.. بالرغم من انتشار هؤلاء المهاجرين أساسا فى العاصمة البريطانية، فإن سكان لندن صوتوا بغالبية كبيرة للبقاء فى الاتحاد، ثم أظهروا غضبهم من النتيجة غير المتوقعة بأن طلبوا أن تتمتع لندن باستقلالية خاصة فى وضع سياساتها، لا تستطيع لندن بالطبع أن تحذو حذو اسكتلندا وتهدد بالانفصال، ولكن هذا الطلب ببعض الاستقلالية فى السياسة يعكس بلاشك الاعتراض على الخروج من الاتحاد الأوروبي. من صوت إذن لهذا الخروج؟ ولماذا؟
التدقيق فى إحصائيات التصويت يجيب على هذا السؤال، وحتى يساعدنا على معرفة لماذا اختلفت استطلاعات الرأى قبل الاستفتاء عن النتائج الحقيقية بعد الاستفتاء، فبالنسبة لنتائج الاستفتاء تبين الإحصائيات التفصيلية أن غالبية من صوتوا للبقاء فى أوروبا (أى نحو 70%) هم من الشباب، بينما العكس تماما صوت الشيوخ (45 عاما وأكثر) فى غالبيتهم للخروج من الاتحاد، أى أن الشباب الذى عادة ما يبحث عن عمل لم يشعر بأن الهجرة من شرق أوروبا تهدد حياته بالدرجة التى تدفعه لمقاومتها والخروج من الاتحاد.
النقطة الرئيسية إذن هى أن ما يتعلقون بالماضى وبفكرتهم عن بريطانيا كدولة عظمي، هو ما حسم نتيجة التصويت هذا الشعور بعظمة مجد بريطانيا العظمى لا يزال مترسخا عند الكثيرين، بحيث إن هناك نوعا من التعالى على أوروبا، ولا يتصور هؤلاء أن بريطانيا العظمى تصبح جزءا فقط من هذه القارة، وحقيقة تاريخ العلاقات البريطانية ـ الأوروبية منذ محاولة لندن فى الستينيات لإنشاء منطقة تجارة حرة، كرد على محاولة إنشاء الاتحاد الأوروبي، ثم المحاولات البريطانية المستمرة فى أثناء مفاوضات دخول الاتحاد، والتى لم تنجح إلا فى سنة 1973، كل هذه المحاولات كانت تهدف لضمان وضع خاص لبريطانيا داخل الاتحاد، ثم عند الاتفاق على إصدار عملة موحدة (اليورو) أصرت بريطانيا على الاستثناء والاحتفاظ بالجنيه الاسترليني.تتعدد الأمثلة، هذه القصة تعكس جنون التعلق بعظمة الماضى بين شيوخ بريطانيا، فكما نعرف، يسيطر على معظم أيام بريطانيا ضباب كثيف يحجب فعلا الرؤية، فى أحد هذه الأيام كان الضباب من الكثافة على المانش (القناة التى تفصل الجزر البريطانية عن القارة الأوروبية) بحيث تمنع فعلا عبور المعديات بين الجهتين، فى اليوم التالى كان عنوان جريدة «التايمز» ذا مغزى عميق: «انعزال أوروبا»، أى أن بريطانيا هى مركز العالم، ولا يمكن أن تكون فى عزلة بينما القارة الأوروبية هى ما تم عزلها! باختصار بعض عواجيز بريطانيا لا يزالون يعيشون فى مجد الماضي، فى غيبوبة عن وضع بريطانيا حاليا فى عالم معولم، هم تقريبا مثل بعض المصريين الذين يعيشون مجد الفراعنة على حساب مواجهة الحاضر بتحدياته، إنه هذا الشعور العميق بعظمة الماضى الذى فشلت استطلاعات الرأى فى التنبيه إليه قبل الاستفتاء، ثم جاءت النتائج مفاجأة.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة