قبل أسبوعين سألتني صديقة روسية: «هل بدأتم ثورة بريطانية؟»، فأجبتها بروح الدعابة
قبل أسبوعين سألتني صديقة روسية: «هل بدأتم ثورة بريطانية؟»، فأجبتها بروح الدعابة: «سنجتمع ونتبادل شراء المشروبات بالدور، ونطرح أمر الثورة للتصويت، إذا كانت الأغلبية بـ(لا)، نعود للمشروبات، وإذا كانت بـ(نعم) نسأل: ما هي الأهداف؟ حسنا فلنحققها، ونعود للمشروبات». السؤال أعقب مظاهرات لليسار تطالب بإعادة الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي. استضافتني «بي بي سي» العربية للتعليق عليها مع أكاديمي يؤكد ضرورة إعادة الاستفتاء.
علقت بسخرية: «خليهم يتظاهروا، بكره يزهقوا ويروحوا» (بالمناسبة ترتعد فرائص الزملاء في «بي بي سي» العربية من تعليقلا كأمر معتاد بل مرغوب لمداعبة المتفرج، فهل الموروث الثقافي للصحافي العربي يثير رعشات فزع التقديس ساخر على رجل سياسة بريطاني، حتى ولو كان تكراًرا لتعليقي قبل دقائق في زميلتهم الخدمة الإنجليزية في عقله الباطن عند السخرية من شخصية سياسية وكأنه زعيمه الأوحد الذي لا يمس في بلده الأصلي؟ رغم أن بريطانيا تمول الشبكة لترويج مبادئ حرية التعبير). الأيام أثبتت تقديري الساخر.. لا أثر للمظاهرات ولا استفتاء ثانًيا ولا يحزنون.
الثورة الحقيقية حدثت بالفعل في بريطانيا في أيام معدودة.
استعادة القرار الديمقراطي من مفوضية بروكسل إلى يد رئيسة وزرائنا الجديدة تيريزا ماي بدمج وإلغاء وإنشاء وزارات يديرها البرلمانيون المنتخبون بقاعدة الشخص المناسب للمرحلة في الوزارة المناسبة؛ ثورة كاملة بالنسبة لرؤيتها للعدالة الاجتماعية والمساواة بين الأقليات وإعادة توجيه السياسة الخارجية البريطانية.
ثورة بلا عنف أو مظاهرات أو قنابل مسيلة للدموع وعصي قوات الأمن.. ثورة على الطريقة البريطانية، وهو ما قصدته في تعليقي الساخر للصديقة الروسية وقفشاتي الساخرة التي تزعج الصحافيين العرب في «بي بي سي».
كانت آخر الثورات العنيفة منذ 375 عاما واستمرت الحرب الأهلية بعد إعدام تشارلز الأول عام 1649 حتى عادت الأمة إلى رشدها وذهب وفد البرلمان للاعتذار لولي العهد الشرعي تشارلز الثاني في منفاه في فرنسا لينصب ملكا في مايو (أيار) 1660.
قال ممثلو الشعب وقتها: «حّرمنا وتبنا» لن نضيع وقتنا وأرواحنا وأموالنا في ثورات؛ التغيير سيكون التشاور والاتفاق والتصويت البرلماني ولننصرف للبناء والتجارة التي بنت بها بريطانيا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس.
تصويت مغادرة الاتحاد الأوروبي (بأغلبية تفوق 17 مليونا ونصف المليون مقابل 16 مليونا، وهي بلغة الديمقراطية نسبة كبيرة قد لا تستوعبها عقليات استفتاءات 9.99 في المائة، وتزيد أربعة ملايين على من صوتوا بدخول السوق الأوروبية المشتركة عام 1975 (كان لأسباب متعددة أحدها تمرد طبقات وجدت نفسها مهمشة في محطات لم يعد قطار العولمة يمر بها.
استقال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون متحملاً المسؤولية ولم يخرج الحزب الحاكم أنصاره تهتف «ابق ابق لا تتنحى» وبدأت المنافسة على من يخلفه في زعامة الحزب وبالتالي تولي رئاسة الحكومة بلا انتخابات البريطانية) خالفني بعناد في «بي بي سي» العربية.
رددت لسيادته أننا نظام برلماني دستوري وليس عامة وفق الأعراف الدستورية. أمر لم يفهمه أكاديمي متخصص في العلاقات الدولية (وليس في الشؤون جمهورًيا رئاسًيا. الناخب يصوت لأحزاب ببرامج مختلفة. البرنامج الذي يقبله الشعب يفوز حزبه بأغلبية المقاعد وتكلف الملكة الشخص الذي يمثله (سواء كان ديفيد، أو تيريزا، أو رمسيس، أو سناء).
بتشكيل الحكومة كزعيم الأغلبية العاملة في البرلمان.
تقلصت منافسة الزعامة بتصويت النواب إلى سيدتين؛ وزيرة الداخلية ماي، ووزيرة الطاقة أندريا ليدسوم. اتضح نقص خبرة الأخيرة رغم تمتعها بدعم التيار التقليدي في قاعدة المحافظين الشعبية.
أوقعتها صحافية متوسطة النوعية في زلة لسان.
والخبرة في التعامل مع الصحافة وخفة الدم تعتبر مؤهلاً ومسوًغا أساسًيا لاختيار أي سياسي على خط المواجهة الأمامي مع الصحافة، ناهيك بالتعامل مع العالم الخارجي في مرحلة معارك سياسية ودبلوماسية مع اتحاد أوروبي معاٍد لبريطانيا الجديدة؟
انتخاب السيدة ليدسوم كان سيوقع حزب المحافظين الحاكم في مأزق حزب العمال المعارض الحالي: زعيمه جيرمي كوربن راديكالي اشتراكي تدعمه جماهير القواعد الشعبية والتيارات النقابية، بينما تعارضه أغلبية نواب البرلمان العماليين.
ولأن النظام برلماني بانتخابات الدوائر وليس القوائم، فإن ترجمة شعبية كوربن إلى أصوات في الدوائر الانتخابية تأتي بنتيجة سلبية تعني هزيمة ساحقة للعمال لأن الناس تصوت للمصالح الاقتصادية والخدمات لا الشعارات.
يوم الاثنين أدركت السيدة ليدسوم وفريقها هذه المعادلة فغلبوا المصلحة الوطنية على الطموح الشخصي (في الأزمات الاقتصادية والتحديات الخارجية يطمئن الناخب البريطاني لحكم المحافظين أكثر منه لإدارة العمال)، وتنازلت عن الترشيح.
بمكالمة على الموبايل وهي في القطار عائدة من مدينة برمنغهام عرفت السيدة ماي أنها ستصبح رئيسة الوزراء القادمة.
عقب مساءلته الأخيرة البرلمانية الأربعاء وكانت استعراًضا ممتًعا من خفة الظل وتبادل النكات والقفشات أخذ المستر كاميرون انحناءة إسدال الستار على الفصل الأخير لرواية ست سنوات في رئاسة الحكومة وسط عاصفة من التصفيق (أمر نادر حدث ثلاث مرات فقط في 20 عاًما) من نواب مجلس العموم وثلاث منصات الضيوف والشعب (ما عدا منصة الصحافيين الشمالية فنحن محايدون لا يسمح لنا بإظهار
العواطف)، وتوجه للقصر لتقديم استقالته كرئيس الوزراء الثاني عشر للملكة.
لم تكن السيدة ماي تتوقع أن تستدعى للقصر قبل ثمانية أسابيع أي بعد التصويت على زعيم جديد في مؤتمر الحزب في سبتمبر (أيلول).
بعد 26 ثانية من مغادرة كاميرون القصر وصلت ماي بسيارة سوداء من البرلمان، لمقابلة الملكة التي كلفتهابتشكيل الحكومة الجديدة؛ وغادرت بعد 24 دقيقة، في سيارة رئاسة الحكومة الرسمية الفضية اللون، كثاني سيدة تحتل منصًبا تاريخه 365 عاما منذ أن ابتكره ايرل (بارون أو دوق) أورفورد المعروف بالسير روبرت والبول (1676 1745 (منصب رئيس الوزراء عام 1721) وكان أطول من احتله حتى 1742 في سلسلة 75 رئيًسا).
المنصب قبلها كان شيخ الخزانة الأول treasury the of lord first لأن المال والتجارة هما أساس السلطة وقوة بناء الإمبراطورية. ولا يزال لقب «شيخ الخزانة الأول» يضاف للقب رئيس الوزراء على اللافتة النحاسية بجوار باب 10 داوننغ ستريت الأسود الذي لم تمض ساعة واحدة على فتحه للسيدة ماي، رئيس الوزارة السادس والسبعين، إلا وكانت تعديلات وتغييرات حكوماتها الجديدة والإطاحة بنظام
كاميرون (الذي رأته قواعد حزب المحافظين الشعبية تهوًرا شبابًيا) تشكل ملامح ثورة حقيقية.. ثورة على الطريقة البريطانية بلا هتافات ومظاهرات
نقلاً عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة