كانت الدوافع التى زعمتها الولايات المتحدة وبريطانيا لتبرير غزو العراق فى سنة 2003 تشمل المزاعم المعهودة عن الدفاع عن حقوق الإنسان
تفجرت من جديد فى بريطانيا، فى الأسبوع الماضي، أحزان دفينة وذكريات مؤلمة، تتعلق كلها باشتراك بريطانيا فى غزو واحتلال العراق، مع الولايات المتحدة، منذ ثلاثة عشر عاما.
حدث هذا بمناسبة نشر تقرير خطير، سمى «تقرير تشيلكوت» نسبة إلى رئيس لجنة شكلتها الحكومة منذ سبعة أعوام، لتقصى الحقائق فيما يتعلق بقرار بريطانيا بدخول هذه الحرب، وما إذا كان اشتراكها فى غزو العراق مبررا أو غير مبرر، فإذا بها تصل إلى نتائج مرعبة تفصح كلها عن المآسى الإنسانية التى يمكن أن تترتب على قرارات سياسية تتخذ لتحقيق أغراض مادية بحتة وشديدة الأنانية.
كانت الدوافع التى زعمتها الولايات المتحدة وبريطانيا لتبرير غزو العراق فى سنة 2003 تشمل المزاعم المعهودة عن الدفاع عن حقوق الإنسان، ونشر الديمقراطية، ووضع حد لنظام ديكتاتورى خطر، شبه بنظام هتلر، وهو نظام صدام حسين الذى قيل وقتها إنه يملك أسلحة للدمار الشامل يهدد بها سلام العالم كله، ونحن نعرف الآن أن الغزو لم يحقق طوال الثلاثة عشر عاما التى مرت على حدوثه، لا احتراما لحقوق الإنسان، ولا ديمقراطية، ولا استقرارا سياسيا أو اقتصاديا، لا فى العراق ولا فى سائر المنطقة العربية، ثم جاء تقرير تشيلكوت منذ أيام ليؤكد أيضا، أن العراق لم يكن يمتلك أسلحة للدمار الشامل، وأن التقارير الصادرة من أجهزة المخابرات البريطانية لم تكن تحتوى على أدلة كافية على وجود هذه الأسلحة فى العراق، وأن رئيس الوزراء البريطانى حينئذ (تونى بلير) كان قد وعد الرئيس الأمريكى بوش (الابن) بأن بريطانيا سوف تقف إلى جانب الولايات المتحدة فيما تتخذه من إجراءات إزاء العراق «فى جميع الأحوال»، وأنه، أى بلير، أعطى البرلمان البريطانى صورة كاذبة عن امتلاك العراق هذه الأسلحة.
كانت الدوافع الحقيقية لهذا الغزو لا علاقة لها بكل ما أعطى لها من تبريرات، كانت هذه الدوافع تشمل الرغبة فى السيطرة على مخزون العراق الثرى من البترول، وكسب مواطئ أقدام فى العراق لشركات أمريكية وبريطانية، وكسب مواقع عسكرية لترسيخ نفوذ هاتين الدولتين فى المنطقة، فى مواجهة توسع محتمل من روسيا أو الصين، وتوجيه ضربة نهائية لأى صحوة عربية محتملة تعيد من جديد فكرة القومية العربية وتهدد المشروع الإسرائيلي..الخ، فهل كان فى أى من هذه الدوافع الحقيقية للغزو، الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ما يمكن أن يبرر المآسى الإنسانية التى ترتبت عليه.
رأت جريدة «الجارديان» البريطانية، من الملائم، منذ أيام قليلة، إسهاما منها فى إحياء ذكرى الشهداء من البريطانيين، أن تخصص صفحتين كبيرتين من صفحاتها لنشر صور الضباط والجنود البريطانيين الذين ماتوا نتيجة غزو العراق، جنبا إلى جنب، مع ذكر اسم ورتبة كل منهم، وراحت الصحيفة تستجوب بعض أقارب هؤلاء الشهداء، فإذا بدموع أمهاتهم وشقيقاتهم تسيل من جديد بمناسبة صدور تقرير تشيلكوت.
هناك قصة واحدة لم يذكرها التقرير، ولكنى عرفت بها وقت وقوعها فى سنة 2002، أى قبل الغزو بشهور قليلة، وربما يعرفها أيضا ولايزال يتذكرها بعض القراء، وهى قصة قد تزيد ما تبعثه من ألم على قصص هؤلاء الشهداء، بسبب الإصرار حتى الآن على إخفاء الحقيقة بشأنها، القصة تذكر بفضيحة درايفوس الشهيرة (Dreyfus) التى وقعت فى فرنسا فى أواخر القرن التاسع عشر (1894)، إذ صدر حكم ظالم بالسجن مدى الحياة على ضابط فرنسى صغير، من أصل يهودي، بتهمة التجسس لمصلحه الألمان، وكان الدافع الى الحكم انقاذ ضابط آخر كبير كان هو المرتكب الحقيقى للجريمة، ولم يفضح الأمر إلا مقال بعنوان (إنى أتهم)، كتبه الروائى الفرنسى الشهير إميل زولا، فأفرج عن الرجل المظلوم، ثم صار الأمر كله موضوعا يتكرر تناوله فى الأعمال الأدبية الفرنسية، كمثال صارخ لما يمكن أن يترتب من مآس.
القصة الآن، والمتعلقة بغزو العراق، هى قصة عالم انجليزى كبير اسمه دافيد كيلى (David Kelly)، فقد حياته فى ظروف تتعلق بهذا الغزو، وتشير كثير من الشواهد إلى أن ظلما كبيرا قد لحقه، وأدى إلى موته، إما انتحارا أو قتلا، كان الرجل متخصصا فى أمور الأسلحة التى تشمل فيما بينها ما يسمي«أسلحة الدمار الشامل»، ومن ثم كان مستشارا لوزارة الدفاع البريطانية وعندما ثارت شبهة امتلاك العراق هذه الأسلحة، صدر تقرير رسمى فى 2002، فى أثناء حكومة تونى بلير، يؤكد امتلاك العراق هذه الأسلحة، ولكن إعلاميا شجاعا فى هيئة الإذاعة البريطانية قال فى برنامج له بهذه الإذاعة، إن هذا التقرير قد جرت «إعادة صياغته»، أو بالأحرى «تزويره»، من أجل إثبات التهمة على العراق ومن ثم تبرير الغزو الأمريكى البريطاني، ثم قيل على لسان هذا الإعلامى البريطاني، إن مصدر هذه المعلومة (أى إعادة الصياغة أو التزوير) هو ذلك العالم البريطانى الكبير (دافيد كيلي)، إذ لم يطق أن تعلن هذه الكذبة على الشعب على أنها حقيقة، ولم يصدر أى نفى أو تأييد من جانب كيلى لهذا التصريح، مما يرجح أنه قد يكون هو بالفعل مصدر الاتهام بتزوير التقرير، التزم الرجل الصمت الكامل، وقالت أسرته انه قضى أيامه الأخيرة فى حالة اكتئاب شديد لم يعهدوها فيه من قبل، ربما لأنه لا يستطيع الإفصاح عما فى قلبه، إذ أن المطلوب منه أن مايقوله يتعارض مع ما يعرف أنه الحقيقة، ثم خرج يتمشى فى حقول قريبة من بيته، حيث عثر عليه ميتا بعد ساعات، بسبب قطع فى شريان اليد.
كنت فى انجلترا فى ذلك الوقت، فتابعت الحدث يوما بيوم، وأتذكر أن تصريحا غاضبا جدا صدر من زوجة دافيد كيلى بعد اكتشاف وفاته، ثم ذكر أنه تم استدعاؤها الى وزارة الدفاع البريطانية، لمقابلة مسئول كبير، ثم أعقب هذا صمت تام من جانبها ومن جانب الجميع، أما لجنة تقصى الحقائق التى شكلت لبحث سبب الوفاة (لجنة اللورد هاتون Lord Hutton)، فقد انتهت إلى أن الحادث كان حادث انتحار ونفت شبهة القتل.
مر على هذا الحادث أربعة عشر عاما، جرى فيها غزو العراق، استنادا إلى تهمة امتلاك العراق أسلحة الدمار الشامل، وراح ضحية هذا الغزو من راح، وجرى فى العراق ما نعرفه من تدمير وتخريب وقتل، ومازال يجري، ثم صدر تقرير تشيلكوت منذ أيام بالنفى القاطع لما قدم للغزو من مبررات، ولكن لم يأت فى التقرير أى ذكر لما حدث لدافيد كيلي، ربما نحتاج لكى نعرف الحقيقة فى أمر وفاته إلى مرور أربعة عشر عاما أخرى.
* نقلا عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة