ما يدور حالياً هو نسخة منقّحة عن السياسات الروسية السابقة، وإن بدت بعض المتغيرات الطفيفة شكلاً
ثمة رأي شائع، أن روسيا تتعامل مع أزمات المنطقة بشيء من المبادئ، وذلك من بوابة الغمز من تركة العلاقات السوفييتية مع شعوب ودول المنطقة خلال الحقبة السابقة، إلا أن التدقيق قليلاً يثبت عكس ذلك تماماً، فموسكو أصلاً لم تتعامل يوماً خلال الحقبتين السوفييتية وما تلاها، إلا بلغة المصالح، وإن وجدت مساحة ما للمبادئ والإيديولوجيات، فهي لا تعدو كونها وسيلة للقفز نحو أبعاد وخلفيات أخرى، تضطرها للمسايرة بهدف الوصول إلى أفضل الممكن بالنسبة إليها. فوقائع الأزمات وما تكشف عنها من مواقف، هي كثيرة ومعبرة بشكل دقيق عن هذا الواقع، الذي لا يزال البعض يكابر ويجاهر ويسبح بعكس تيار الواقع المر.
وبعيداً عن الكثير من تفاصيل إدارة الأزمات، ومنها الصراع العربي «الإسرائيلي» مثلاً، أو علاقات الدول العربية مع غيرها من دول الجوار، بخاصة خلال القرن الماضي، فإن ما يدور حالياً هو نسخة منقّحة عن السياسات الروسية السابقة، وإن بدت بعض المتغيرات الطفيفة شكلاً. فموسكو التي دخلت مجدداً إلى المنطقة، من بوابة الأزمة السورية،بعد خروجها المدوّي من العراق أولاً وليبيا ثانياً، لم تتمكن من احتواء ردات الفعل الإقليمية، وبخاصة التركية منها، وعلى الرغم من وصول العلاقات إلى حافة الهاوية التي أنذرت بإمكانية تفجير عسكري شامل بين البلدين، فإن موسكو تلقفت الليونة التركية مؤخراً واستوعبتها مجدداً، وأعادت تكوين بيئات مناسبة لتكييف الأوضاع المتصلة بالأزمة السورية، رغم أنها تمسك عملياً بعض المفاتيح الأساسية للصراع القائم، والمتعدد الاتجاهات التي تتقاطع وتتشابك المصالح فيها، كقضية الأكراد مثلاً، واستثماراتها الروسية في غير اتجاه عربي وتركي. وهي بذلك تمسك أدوات ووسائل فعالة باتجاه كل من العرب والأتراك.
جانب آخر لا يقل دلالة ورمزية عن العلاقات الملتبسة بين بعض العرب وروسيا، ربطاً ووصلاً بالعلاقات الروسية «الإسرائيلية»، وهنا تكمن الطامة الكبرى، فعدا عن المحددات التي تحكم علاقات الطرفين الروسي و«الإسرائيلي»، وبخاصة فترة ما بعد تسعينات القرن الماضي، فإن ما حدث وسيحدث من تداعيات التدخل الروسي في الأزمة السورية جاء بمعظمه لصالح «إسرائيل» تحديداً، فموسكو مثلاً، رغم وقوفها المعلن إلى جانب النظام في سوريا، لكن هذا الأخير لم يستفد عملياً وبالشكل الذي يناسبه من التدخل الروسي، بل إن «إسرائيل» كانت أكبر المستفيدين وإن جلست في المقاعد الخلفية لإدارة الأزمة، بل إن ثمة الكثير من المشاهد والدلالات المعبرة كانت تقدمها موسكو ل «إسرائيل» مجاناً، وعلى حساب السوريين خاصة والعرب عامة. بل إن وشائج العلاقات وحميميتها برزت بوضوح لدى التدقيق بالزيارات الأربع لرئيس الوزراء «الإسرائيلي» بنيامين نتنياهو إلى موسكو، والتي تعكس حقيقة العلاقات ورمزية البراغماتية الروسية في هذا المجال.
والأغرب في أمر العرب، ما يحيط بهم حالياً من مظاهر دبلوماسية الاعتذارات التي برزت مؤخراً، فيما يختص بكل من العلاقات الروسية -التركية، والتركية - «الإسرائيلية»، إذ يبدو أن مشهد علاقات المنطقة يتجه نحو سياقات مختلفة، سيكون العرب فيه أكثر استهدافاً من ذي قبل، ذلك بحكم موازين القوى التي باتت أكثر اختلالاً، وأكثر سلبية على الواقع العربي القائم حالياً.
ماذا يعني كل ذلك؟ ألا يعني ذلك أن سياسة موسكو البراغماتية في إدارة الأزمات الإقليمية ومنها السورية، قد استفادت منها وإلى أقصى الحدود؟ والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة حالياً: أين بعض العرب في كل هذه السياسات المعلنة والمضمرة؟ أليس من الأنسب إعادة قراءة بعض المعطيات والوقائع والبناء عليها من جديد؟ ما الذي يمنع اتفاقاً أمريكياً -روسياً جديداً بمسمّى لافروف - كيري، بعد تفكيك وإنهاء خدمة ومفاعيل سايكس- بيكو؟ ربما ثمة حاجة ملحة وضرورية، لأن نفهم نحن العرب ما يجري حولنا، علَّ وعسى قبل فوات الأوان.
نقلاً عن جريدة "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة