حينما قدم الشاعر والمفكر غوته، عند نهاية القرن الثامن عشر، مسرحيته التاريخية/ التراجيدية الكبرى «ايغمونت» لتحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً
حينما قدم الشاعر والمفكر الألماني غوته، عند نهاية القرن الثامن عشر، مسرحيته التاريخية/ التراجيدية الكبرى «ايغمونت» لتحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً، كان مأخذ النقاد الأساسي عليها، أنها حطمت في الفصل الخامس الأخير منها، تاريخية شخصيتها الأساسية التي حملت اسمها، لتضفي على هذه الشخصية بعداً غنائياً قلل من شأنها، من ناحية الدلالة الفكرية، مؤكدين أن غوته قد لعب هنا على عواطف الجمهور متنكراً للحقيقة التاريخية متسائلين هل يحق للمبدع مثل هذا التصرف؟ لقد دارت نقاشات طويلة في ذلك الحين كان موضوعها علاقة التاريخ بالإبداع. وقال غوته خلال تلك النقاشات، أنه لو شاء أن يكتب تاريخاً علمياً لفعل «لكنني هنا أشتغل على الفن وبالتالي ليس من شيمة الفن أن يقدم الحقيقة التاريخية بحذافيرها». والحال أن مثل هذه النقاشات ستظل متواصلة حتى الآن، أما بيتهوفن فإنه لم يكن من النوع الذي توقفه نقاشات من هذا الصنف عن التصدي، موسيقياً، لعمل يريد التصدي له. بل إن تلك التي بدت «نقيصة» - في نظر النقاد - ستكون هي تحديداً ما فتن الموسيقي بيتهوفن، الى درجة أنه شاء أن يجعل من العمل كله، إذ شاء اقتباسه في عمل موسيقي، أو بالأحرى في قطعة أوبرالية سرعان ما تخلى عن مشروعه المتعلق بها ليكتفي، في نهاية الأمر بتحويلها الى «افتتاحية» تماماً كما كان شأنه مع مسرحية شكسبير التاريخية «كوريولانوس» التي بدورها صارت بين يديه مجرد افتتاحية أوبرالية من دون أوبرا – ونذكر هنا أن بيتهوفن الذي داعبته مراراً فكرة تلحين أوبرات كثيرة، لم يضع في نهاية الأمر سوى أوبرا واحدة هي «فيديليو» أما محاولاته الأخرى فإنها أبداً لم تكتمل. غير أن عدم اكتمال «ايغمونت» كعمل أوبرالي، لا يقلل أبداً من شأن ما آلت اليه رغبته في نهاية الأمر. حيث إن لدى معجبي صاحب السمفونيات التسع الأشهر في تاريخ الفن الموسيقي، عملاً كبيراً – يحمل طبعاً عنوان «افتتاحية إيغمونت» - يصغون اليه ويصغون، بل يضعه بعضهم في قمة أعمال ذلك الفنان الكبير.
وهذا، بالتحديد، لأن بيتهوفن لم يهتم بأحداث «ايغمونت» كما كتبها غوته، بل اهتم بجوهر هذا العمل، بدلالته الإنسانية والأخلاقية، هو الذي كان في ذلك الحين غارقاً في النظر السياسي وفي البحث عن الحرية، سائلاً في نهاية الأمر كيف يمكن للفن أن يكون فعل حرية، وقريناً للإنسان في سعيه الدائم الى إثبات إنسانيته وترسيخها. والحال أن قراءة بيتهوفن لـ «ايغمونت» غوته، وضعته ذات يوم في مواجهة ما كان يتطلع اليه تماماً. فهو إذ كان في ذلك الحين (عام 1810) في الأربعين من عمره، وكانت خيبة أمله إزاء سياسات بونبارت الأوروبية وما آلت اليه الثورة الفرنسية، قد شلت تفكيره المتحمس لهما تماماً، وجد نفسه على الفور يغض النظر عما في نص غوته من تركيز على المصير الفردي للشخصية التاريخية التي صورها قلم كاتب ألمانيا وفيلسوفها الكبير، ليركز هو - وتبعاً لأسلوب هوميري، كما يقول الباحثون - على تمجيد كل إنسان يناضل في سبيل الحرية. ومن هنا أتت «افتتاحية» «ايغمونت» هذه كواحدة من أبرز الأعمال التي تبرز فيها مثالية بيتهوفن الروحية «تلك المثالية التي غذتها لديه قراءته لأمهات الأعمال الكلاسيكية»، وكذلك «مساهمته، هو نفسه، الفاعلة في أحداث عصره». ومن هنا ما يقال دائماً أن المرء الذي يسعى الى معرفة ما في داخل روح بيتهوفن يتعين عليه أن يبحث عن ذلك داخل «ايغمونت» نفسها...
بالنسبة الى العمل نفسه، في بعده الموسيقي الخالص، أجمع النقاد دائماً على أنه عمل يعرض أفكار بيتهوفن بوضوح من دون أي تطويرات شكلية خالصة. المهم هنا، بالنسبة الى بيتهوفن، هو عرض الأفكار والتجليات موسيقياً، وصولاً الى خاتمة تقول كل شيء. ومع هذا، يقول الباحثون «يتعين ألا يفوتنا أبداً ان لهذه «الافتتاحية» بنية شديدة التعقيد، بل إن تعقيدها يفوق ذاك الذي أثر عن «افتتاحية فيديليو» أو حتى افتتاحية «كوريولانوس»... وذلك لأن بيتهوفن حرص هنا، وفي مذاق سيمفوني واضح، على أن يجعل للافتتاحية ثلاث حركات، بدلاً من ان يتركها منسابة في حركة واحدة متواصلة. إذ إنه جعل المتن الأساسي للعمل ومركز الصدارة فيه يُستبق بـ «تمهيد» عصبه الأساسي تعارض حاد بين قسوة الآلات الوترية، والألم المتبدي من خلال استخدام آلات النفخ، التي ما إن تظهر أصواتها بين لحظة وأخرى، حتى تعود فوراً الى الاختفاء. والحال أن وضعية التلاشي هذه هي التي تعطي لـ «التمهيد» سحره وغرابته، اذ تبدو التجليات نتفاً نتفاً، مشتتة على مدى زمن قصير، غير أن المميز في الأمر هو أن هذه النتف الفالتة هنا أو هناك، سرعان ما تتجمع متقاربة مع بعضها البعض لتشكل معاً جملة موسيقية طويلة واحدة، تكرر مرات عدة، لتتفجر في نهاية الأمر في «آليغرو» مباغت، يحوي جملة تؤديها آلات الفيولونسيل، وتصبح لازمة مميزة للعمل، إذ تتلقاها آلات الكمان لتستكملها فور ذلك.
وهذه الحركة المتنقلة من التشتت الى التجمع تتواصل خلال الجزء الأكبر من العمل بعد ذلك، لتصل دائماً الى «كريشندو» قوي، تنبثق من خلفيته أنشودة صاخبة تمجد النضال الإنساني في سبيل الحرية وقد أضحى عاصفاً. غير أن المناخ بالكاد يخلد لذلك النضال، حتى نجابَه بأصوات الطغيان الصاخبة بدورها، في قوة ضارية تزيد العصف عصفاً... وهنا في هذه اللحظة يبدو وكأن مصير البطل، صار هو هو مصير صوته الذي يتلاشى بالتدريج، ما يضعنا مباشرة أمام ذلك المفهوم الرومانسي الذي يقول أن مصير البطل الحقيقي لا يكتمل إلا في استشهاده: موته هو حريته... انتصاره في الموت هو حرية الإنسان في كل مكان وزمان. ويترجم بيتهوفن هذا المعنى حينما يصل الى الحركة الثالثة الأخيرة من العمل، حيث تتضافر الأوركسترا في حركة صخب، تنمو بالتدريج لتعلن الانتصار النهائي على الظلم وعلى الطغيان.
لن يعرف قراء غوته حين ختم سيرته الذاتية، بالعبارات نفسها التي وضعها في مسرحيته، على لسان الكونت ايغمونت الشخصية المحورية في العمل، حينما كان ايغمونت، وقد هزمه الأعداء، يساق الى الإعدام. وبيتهوفن إذ بنى عمله كله، أو روح هذا العمل على الأقل، انطلاقاً من تلك العبارات، كان من الواضح أنه انما كان يتوخى أن يقيم توليفاً بين أفكاره وأفكار الزمن الذي يعيش فيه، وبين الموضوع الذي عبر عنه غوته، من خلال شخصية الكونت ايغمونت الذي يضحي بحياته من أجل شعبه. وهو، اذ يُهزم في نضاله، لا يكون أمام التاريخ كما أمام الفن إلا أن يحوّل هزيمته الى انتصار. ومن هنا، اذا كان في وسع المستمع الى «افتتاحية ايغمونت» كما كتبها بيتهوفن، أن يلاحظ كم أن ترانيم الحزن الجنائزي تهيمن على سياق العمل فإن هذا الحزن سرعان ما تقطعه صرخات فرح انتصاري كبير، سيقول الباحثون دائماً انه يبدو وكأنه يستعيد عبارة القديس بولس الشهيرة: «أيها الموت أين انتصارك؟». ومن هنا ما قيل دائماً من أن بيتهوفن عرف في هذا العمل كيف يقيم ذلك التوحد المثالي والرائع بين «قداسة الكلمة وسحر الصوت».
إذاً، تتوسط «افتتاحية ايغمونت» هذه، مسار حياة بيتهوفن (1770-1827) وكذلك تتوسط مساره المهني، هو الذي كان كتب قبلها العديد من أعماله الرائعة، وسيكتب بعدها تلك الأعمال الكبيرة الأخرى، من سيمفونيات وكونشرتات ومقطوعات متنوعة، بخاصة سوناتات، تضافرت كلها لتجعل منه واحداً من كبار الموسيقيين الذين عرفتهم البشرية في تاريخها، بل الموسيقى بامتياز، اذ جمع الفن الى الفكر المتطلع الى الحرية، الى التجديد الى التنويع... تشهد على هذا عصورنا الحديثة التي لم يفتها أن تجعل من مقطوعته الكورالية الشهيرة في «السيمفونية التاسعة»، نشيد الوحدة الأوروبية، و «نشيداً الى الفرح» الدائم... أي الى حضور الإنسان في هذا العالم.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة