عينة من النساء صعدن وتألقن وبعضهن غاب وأخريات سقطن بالرصاص والطعنات، لكنهن جعلن بلادهن وبعض بقاع العالم أمكنة محتملة العيش.
"سمعت ماري انطوانيت صرخات الجوعى من فقراء بلادها، فنصحتهم بأن يأكلوا البسكويت".. تظلم هذه الحكاية المتواترة عبر التاريخ ملكة فرنسا، كما تظلم معظم النساء اللواتي حجزن مقاعد قيادية متقدمة، بإسقاط دلالاتها عليهن جميعًا، فالواقع يقول عكس ذلك، على الأقل هذا ما كشفته دراسة جديدة عن سيرة زوجة الملك لويس السادس عشر ووالدة الأمير لويس السابع عشر، فهي لم تتفوه أبدًا بدعوة الفقراء لأكل البسكويت إذا عزّ عليهم شراء الخبز، على الرغم من أن هذه البراءة الجزئية لا تبرئ ساحتها في الحكم والملك بالمطلق، وبالتالي فإن حجة ماري انطوانيت للنيل من النساء السياسيات تصبح ساقطة بالتبعية.
تقف هيلاري كلينتون، اليوم، على عتبات البيت الأبيض، ينافسها رجل تعود على مواجهة النساء بالترويض وليس بالمقارعة، وإذا ما فازت زوجة الرئيس الأمريكي السابق بكرسي المكتب البيضاوي، فإنها ستنقل معها نساء بلادها، وربما نساء العالم، إلى قمة تشرف منها على عالم الرجال، بسموه وصغائره وصراعاته.
سبقتها إلى مثل هذه القمة امرأة أخرى هي تيريزا ماي التي احتلت المكتب الأول في “10 داوننغ ستريت”، لتصبح رئيسة حكومة بريطانيا الحليفة الدائمة للولايات المتحدة الأمريكية، وبهذه الخطوة تسترجع بريطانيا، وأوروبا والعالم أجمع، ذكرى امرأة أخرى شغلت الموقع نفسه لأكثر من عقد، هي مارجريت تاتشر، فأصبح لقبها "السيدة الحديدية" ملتصقا بالتجيير بخليفتها في الحزب والحكم.
قبل هاتين السيدتين بزّت سيدة ألمانية تبلغ من العمر 61 عامًا، هي أنجيلا ميركل، كل ما أنجزه أسلافها من الرجال في الموقع الذي شغله يومًا أدولف هتلر وقلب من خلاله العالم رأسًا على عقب، وليصبح اسمها أكثر تداولًا من كونراد أديناور، وفيلي برانت، وهيلموت شميت، وهيلموت كول، وغيرهارد شرودر.
هؤلاء النساء يستكملن حلقة النساء الناجحات في سدة الحكم، ليس في العالم المتقدم فحسب وإنما على مستوى العالم الثالث أيضًا، ففي الهند ورثت أنديرا غاندي عن والدها جواهر لآل نهرو، حكم بلد شاسع ومكتظ بالبشر والتناقضات، فوطدت فيه معالم الدولة الحديثة بعد استقلال مكلف، فكلفتها تجربتها في نهاية الأمر حياتها، لكن خليفتها صونيا -زوجة ابنها راجيف المقتول هو الآخر- ستعيد إلى الهند مسحة من الحزم النسائي.
وفي باكستان عصفت دراما السياسة بعائلة ذو الفقار علي بوتو بعد اغتياله، فحملت الإرث ابنته بنازير لتلقى المصير نفسه بعد حين، وفي بنجلادش، منحت الشيخة حسينة، ابنة مؤسس البلاد مجيب الرحمن الذي اغتاله العسكر، بلادها استقرارًا مشهودًا في منطقة فياضة ببراكين الفقر والجغرافيا والسياسة.
وفي بورما (ميانامار) قادت امرأة واثقة من نفسها، وابنة ضحية للسياسة والجيش، هي أونغ سان سوتشي مواجهة شجاعة ضد تحكم العسكر، وخلصت بلادها من حكم طغمة ظالمة، وإن عجزت عن تحريرها من تحكم النزعات العنصرية والطائفية المتضافرة مع واقع الفقر والتخلف.
ومثل من سبقنها، استطاعت ميغاواتي سوكارنو، ابنة الزعيم الوطني في أندونيسيا أحمد سوكارنو أن تدفع ببلادها في رحلة صعبة، لكنها ناجحة، نحو الديمقراطية والعصرنة.
في أمريكا اللاتينية، قارة العواصف والثورات، تربعت نساء فوق البراكين فهدّأتها، قبل أن تسقطها رياح عاصفة، منهن إيزابيلا بيرون التي ورثت السلطة عن زوجها خوان بيرون عام 1974، قبل أن يطيح بها انقلاب عسكري عام 1976، ثم حظيت الأرجنتين برئيسة أخرى في العام 2007، هي كريستينا فرناديز دي كيرشنر، وأعيد انتخابها في العام 2011، واستطاعت خلال تلك السنوات تحقيق حضور قاري ودولي مميز.
ومثلها فعلت رئيس البرازيل ديلما روسيف، قبل أن تتألب عليها التيارات السياسية في بلادها.
وفي الفلبين، ما زال المواطنون يذكرون رئيستهم كورازون أكينو، التي فازت بالرئاسة (1986 ـ 1992) بعد الإطاحة بالديكتاتور السابق فرديناند ماركوس، وبعد اغتيال زوجها المناضل نينيو أكينو.
تلك عينة من النساء، من الشرق والغرب، صعدن وتألقن وبعضهن غاب وأخريات سقطن بالرصاص والطعنات، لكنهن جعلن بلادهن وبعض بقاع العالم أمكنة محتملة العيش.
وتجاربهن تنقض عمليًّا "نظريات علمية" عقدت الدور القيادي، والريادي للرجل بالضرورة، بحكم الفطرة التي نشأ عليها، وهو ما عرضه وناقشه بإسهاب البروفيسور ستيفن جولدبرج في كتابه "لماذا يحكم الرجال؟".. وفي رأيه أن النساء يستطعن القيام بأدوار الرجال في مجال السياسة والحكم، عندما ينهار الذكور، فتدفع فطرة الأمومة النساء لتولي قيادة السفينة وحفظها من الغرق.
هذا الرأي الكلاسيكي، لا يصمد كثيرًا عند دراسة التجارب التاريخية والمعاصرة، فامرأة مثل جان دارك (عذراء أورليان) (1412 ـ 1431)، ستتصدى ببطولة نادرة لتحرير بلادها، استجابة لنداء داخلي، وستدفع حياتها ثمنًا لدورها بعدما اتهمت بـ”العصيان والزندقة”، لكنها ستسترجع سمعتها الوطنية بعد فوات الأوان، وستصبح بطلة فرنسا على مر العصور.
حتى على الصعيد الفكري والفلسفي فإن امرأة مثل هيباتيا السكندرية (350-370) ستمنح جسدها قربانًا تضيء به عقلها، فلم تتوان خناجر الرجال عن تقطيعه إربًا ظنًّا منهم أنهم بذلك يخنقون أفكار الوعي التي بثتها.
فها هن النساء قادمات من جديد، فهل يعد العالم نفسه بخلاص مديد؟ هذا السؤال، طرحته بصياغة مختلفة هيئة الإذاعة البريطانية قبل 10 سنوات على 2356 شخصًا، يقول: هل تعتقد أن العالم سيصبح أكثر أمنًا إذا ما قادته النساء؟ وكانت النتيجة أن 40,6% أكدوا أنه سيكون أفضل و59,3 % قالوا ليس بالضرورة.
واعتمدت الدكتورة سوزان جرينفيلد الباحثة في علوم الدماغ بجامعة أكسفورد، هذه النتيجة لكي تؤكد أن الناس في كثير من المجتمعات باتت مهيأة لقدوم لتولي النساء السلطة، ووافقها البروفيسور ستيف جونز عالم الوراثة بجامعة لندن كوليدج بتقرير جاء في خلاصته أن القرن الحادي والعشرين هو بلا شك قرن النساء في الغرب، معتمدًا نتائج استبيانات تتعلق بالكفاءات التكنولوجية وقدرات التحليل والمتابعة.
وكأن نتائج هذا التقرير، تقدم الصياغة العلمية لعبارة أطلقتها رئيسة بريطانيا الراحلة “السيدة الحديدية” مارغريت ثاتشر، تقول فيها: “في السياسة عندما تحتاج إلى الكلام إسأل الرجال، وعندما تحتاج إلى الأفعال فعليك بالنساء".
لكن بالنسبة لبعض الرجال، أو ربما كلهم، فإن المرأة تبقى هي المرأة سواء في المطبخ أو البيت الأبيض، وذلك بالضبط ما قاله الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتيران عن مارجريت تاتشر: "لديها عيون كاليغولا وفم مارلين مونرو". هي في نهاية الأمر امرأة، تسميها اللغة الشعبية في بلادنا "وليّة" حتى ولو أصبحت "وليّة أمر".
aXA6IDE4LjIyMy4xNzIuMjUyIA==
جزيرة ام اند امز