تعودنا أن نسمع فى كل يوم أخبارا جديدة، وعودتنا وسائل الإعلام أن ننتظر فى كل يوم سماع أخبار مثيرة
تعودنا أن نسمع فى كل يوم أخبارا جديدة، وعودتنا وسائل الإعلام أن ننتظر فى كل يوم سماع أخبار مثيرة، فإن لم تكن بطبيعتها كذلك، فعلت وسائل الإعلام كل ما فى وسعها لإقناعنا بأنها مثيرة، ولكنى لاحظت مؤخرا شيئا جديدا فيما نسمعه من أخبار، وهو كثرة الأخبار غير المفهومة. لفت نظرى بقوة إلى هذه الظاهرة، خبر ذلك الحادث الفظيع الذى وقع فى مدينة نيس بفرنسا منذ أيام قليلة، وراح ضحيته أكثر من ثمانين شخصا بريئا كانوا يحتفلون بالعيد القومى لفرنسا، الحادث فظيع بقدر ما غير هو مفهوم، فمهما قيل فى تفسيره من أن سائق الشاحنة التى اجتاحت الجماهير المحتشدة، رجل مريض نفسيا أو مختل عقليا، فإن الحادث يظل مدهشا ومستعصيا على التفسير، فالمرضى نفسيا والمختلون عقليا موجودون دائما فى كل بلد وجميع العصور، ولكنهم لا يحدثون عادة مصائب من هذا النوع، ثم يتساءل المرء عما اذا كان من المقصود أن يقع حادث كهذا فى يوم عيد، وعن سبب نسبته الى منظمة ارهابية (داعش) تكررت منها هذه الأعمال فى السنوات الأخيرة، أو عما اذا كان لأحد مصلحة فى نسبة مثل هذه الأعمال الى مثل هذه المنظمة، سواء كانت هى مرتكبته أو لم تكن، وعما اذا كان هناك أى مغزى لكون سائق الشاحنة المتسبب فى الحادث تونسى الأصل، ومن هو على أى حال المستفيد الحقيقى من هذه الأعمال، مادام قد ثبت على وجه قاطع، ومنذ فترة طويلة، أن الإسلام الذى تنسب إليه هذه الأعمال لا يحقق أى فائدة منها؟
مثل هذه الأحداث غير المفهومة كثرت بشدة فى السنوات الأخيرة، وكل ما كتب أو قيل عنها فى محاولة تفسيرها لا يمكن أن يشبع غليل أى شخص، كل الكلام عن أسباب دفينة للشعور بالحقد أور الضغينة من جانب المسلمين تجاه الغربيين، أو عن أسباب أيديولوجية أو اقتصادية أو اجتماعية لنمو التعصب لدى طوائف معينة من بعض الشعوب، كلام لا يمكن أن يقبله العقل لأسباب كثيرة، بل وأستغرب بشدة أن يتكرر ذكرها من كاتب بعد آخر، ويخطر لى أحيانا أن هؤلاء الكتاب يرددون فقط ما يعرفون أنه الفكرة السائدة، ومن ثم لن يلومهم أحد عليها، بل أجد من المدهش أيضا هذا القبول الشائع لفكرة (داعش) نفسها، وتصديق أنها فكرة نشأت نشأة طبيعية لدى بعض المتعصبين الذين يهدفون حقا الى إعلاء راية الإسلام، وتحقيق الخلافة الإسلامية مرة أخرى فى العصر الحديث، كم هو يا ترى عدد الناس الذين قبلوا تفسير الاحتلال الانجليزى لمصر سنة 1882، بأنه كان نتيجة عراك بين رجل مالطى وحمار مصري، اختلفا على الأجرة فقتل الحمار المصرى الراكب المالطي، فحدث شغب شديد أتت الجيوش البريطانية لفضه وحماية الأقليات فى مصر؟
ولكن الأخبار غير المفهومة أكثر من هذا، وأقدم من حادث مدينة نيس بكثير، حادث مقتل الشاب الإيطالى منذ شهور قليلة مازال محيرا بشدة وغير مفهوم، وكذلك حادث وقوع الطائرة الروسية التى قامت من شرم الشيخ قبل ذلك بأسابيع، بل إني، وكثيرين غيري، نذهب إلى حد اعتبار أحداث ما يسمى بـ«الربيع العربي» من هذا النوع من الأخبار غير المفهومة، هل كان حقا وقوع ثورة بعد أخرى فى بلد عربى بعد آخر، وبهذه الدرجة من العنف، وخلال فترة قصيرة للغاية، برغم الاختلاف الشديد فى ظروف هذه البلاد العربية، وفى درجة استعدادها للثورة، أو قوة أو ضعف الحكومة فيما بينها، من قبيل «العدوي» التى تنتقل من بلد لآخر، كما يقول البعض، أم أن الأمر كان مجرد صدفة، أم أن الحقيقة ليست هذه أو تلك؟
<<<
حاولت أن استعيد فى ذهنى فترة تاريخية أخري، فى تاريخ العالم أو منطقتنا العربية، كانت تتسم هى أيضا بكثرة «الأحداث غير المفهومة»، فخطر لى العشر سنوات التالية لانتهاء الحرب العالمية الثانية (45 ـ 1955).
ففى هذه الفترة أيضا كثرت الأحداث التى لم نجد لها تفسيرا معقولا إلا بعد فترة من وقوعها، كانت أحيانا فترة طويلة، فى مصر مثلا، توالت أحداث الاغتيالات على نحو غير معهود فى التاريخ المصري، ابتداء من اغتيال رئيس الوزراء (أحمد ماهر)، الذى نسب الى شخص معتوه وسبب لا يقبله العقل، هو إعلان مصر الحرب على ألمانيا (عندما كان هذا شرطا من شروط قبول الدولة عضوا فى الأمم المتحدة بعد انتهاء الحرب)، ثم اغتيل المسئول عن أمن القاهرة (سليم زكي)، ثم قاض كبير (الخازندار)، ثم رئيس وزراء آخر (النقراشي)، ثم المرشد العام للإخوان المسلمين (حسن البنا)، ثم توالت تفجيرات القنابل فى وسط القاهرة حتى حدث حريق القاهرة فى يناير 1952..الخ. فى المنطقة العربية وفى بقية إفريقيا وآسيا، توالى إعلان استقلال دولة جديدة بعد أخرى من الدول التى كانت تستعمرها بريطانيا أو فرنسا أو دولة أوروبية أخري، ثم أصبحنا نستيقظ كل يوم على خبر انقلاب عسكرى فى بلد بعد آخر من هذه البلاد، وكانت الانقلابات تبرر عادة بالرغبة فى الإصلاح والقضاء على نوع أو آخر من الفساد، فى هذه الفترة حدثت أيضا الحرب الكورية (50 ـ 1953)، والحرب الأهلية فى اليونان (46 ـ 1949)، واستولى الشيوعيون على الحكم فى الصين، واحتل الاتحاد السوفيتى دول أوروبا الشرقية، وظهرت فى الولايات المتحدة ظاهرة غير مألوفة هى المكارثية (50 ـ 1957)..الخ.
نحن نعرف الآن أنه على الرغم من التفسيرات المختلفة التى قدمت لهذه الأحداث، كان هناك عامل واحد حاسم وراء معظمها، وهو تغير الحجم النسبى للقوة الاقتصادية والعسكرية للدول العظمي، ومن ثم بداية وراثة الاستعمار الأمريكى والسوفيتى للاستعمار البريطانى والفرنسى.
كان هذا هو العامل الأساسى وراء نجاح حركات الاستقلال، ووراء الانقلابات العسكرية والثورات والحروب الصغيرة، كما أنه قد يفسر أيضا انتشار فكرة التنمية الاقتصادية والتخطيط فى دول العالم الثالث، التى اقترنت أيضا بظهور عهد المعونات الاقتصادية الخارجية.
هل نحن نمر الآن يا ترى بفترة مماثلة من حيث إعادة ترتيب العالم لنفس السبب، وهو تغير المركز النسبى للقوى الكبرى من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية؟ فإذا بنا نسمع كل يوم خبرا غير مفهوم، يضاف إلى أخبار سابقة كثيرة غير مفهوم أيضا؟ طبعا لابد أن تتغير بعض الأمور مع تغير الوقت والظروف، هل حل «الإرهاب» محل الحروب والثورات الصغيرة؟ هل حلت «داعش» محل الانقلابات العسكرية؟ وهل حل «خطر الإسلام» محل «خطر الشيوعية»؟ لن يتضح الأمر تماما إلا بعد مرور فترة طويلة، ولكن هذا التفسير المحتمل يستحق بعض التفكير.
* نقلا عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة