ازدهار غير مسبوق للمسرح في بيروت.. ليل العاصمة المنفجر فنًّا وفُرجة
لزمن طويل ظننا أن المسرح آيل للأفول، لكننا اليوم، وعلى نحو مباغت، بالكاد نجد متسعًا من الوقت لنشاهد كل المسرحيات التي تُعرض في بيروت.
هو أمر مثير للدهشة... لزمن طويل ظننا أن المسرح آيل للأفول، مع ندرة العروض وقلّة الجمهور. ظننّا أن المدينة باتت تضيق بالمسرحيات والعروض الحيّة، وكنا نقول إن هذا الفن صار يكتفي بالظهور الموسمي، وإن هواته وفنانيه "تشرّدوا" إلى أعمال أخرى، كالتليفزيون والسينما وأشغال مختلفة. مقولة "موت المسرح" كانت رائجة، وصدقناها من غير نقاش تقريبًا. وارتضينا لمن بقي عنيدًا أن ينتج مسرحية بأقل تكلفة ممكنة، وبطموح لا يتعدى خمسة عروض لها. صرنا ننظر إلى المسرح بوصفه منصة تجريبية لجمهور محدود.
هكذا كان الحال لسنوات مديدة، لكننا اليوم، وعلى نحو مباغت، بالكاد نجد متسعًا من الوقت كي نلاحق ونشاهد كل هذه المسرحيات، التي تملأ خشبات بيروت ومنصاتها. وحتى في أثناء كتابة هذه المقالة، استجدّت مسرحيات وابتدأت عروضها للتوّ.
مقدمة هذا "الانفجار" تعود إلى سنوات قليلة، ربما حين توسع جمهور "ثقافة السهر"، إذ دبّت الحياة في الليل البيروتي، المفعم بالصخب، والمتكاثرة أمكنته، من شارع "مونو" إلى شارع "الجميزة"، ثم "المنفلت" على طول شارع "مار مخايل". وسرعان ما كان رد الفعل على ما يحدث في تلك الشوارع الواقعة شرق بيروت، بأن سارع المستثمرون والمغامرون إلى إحياء شارعي "الحمرا" و"المقدسي" في غرب بيروت. وفي هذا الوقت، كانت النهضة العمرانية في منطقة فردان وجوارها (غرب بيروت أيضًا)، تستجيب لظهور أغنياء جدد استوطنوا تلك الناحية بسبب ماضيها الأرستقراطي، فانتشرت المقاهي والمطاعم و"المولات" وصالات السينما.
الإقبال على الخروج الليلي والسهر، والبحث عن الترفيه، كان يقترن أيضًا برغبة متعاظمة بالانتماء إلى نمط عيش، صاغه جيل جديد متصل بتقاليد الثقافة اللبنانية، وبمخيلة "عصر ذهبي" ما زال يشكّل مثالًا وصورة: المسرح الحديث، السينما، كرنفالات الشارع، المربعات الليلية، المهرجانات الفنية الكبرى، فنون الغناء والعروض الموسيقية، الأمسيات الثقافية، الحفلات العالمية. بل إن كلمة السر هي اقتران تذوق الفنون بالارتقاء الاجتماعي، فالأثرياء والبرجوازيون ومتوسطو الحال، لا يحصّلون اعترافًا بمكانتهم الاجتماعية، إلا وفق اتباعهم أسلوب حياة شديد الصلة بالمظاهر الثقافية والفنية: من اقتناء اللوحات إلى السهر المسرحي.
الاستجابة الذكية لهذا التطور الاجتماعي الثقافي، الذي يمكن تسميته "مجتمع الليل"، جاءت مع ابتكار مشروع "مترو المدينة" الحمرا، صيغة لتجديد تقاليد الذهاب إلى المسرح، فهو أعاد فكرة "المسرح الكباريه" بعروضه الترفيهية، التي تمزج الفرجة والسهر. فتحولت العروض الموسيقية والغنائية والمسرحية إلى طقس اجتماعي وتقليد ليلي يومي، إذ بوسع الجمهور أن يشاهد ويتسامر في وقت واحد. وأفضت هذه الصيغة من مسرح يومي، إلى تكاثر العروض التي تناسبه، خصوصًا مع عروض "هشّك بشّك" كعرض غنائي موسيقي، يحاكي موسيقى الأفراح و الكباريهات، التي كانت منتشرة في مصر في النصف الأول من القرن الماضي، ومسرحية "الطريق الجديدة" ليحيى جابر، وعروض "الراحل الكبير" وليس انتهاءً بعرض "بار فاروق".
رسّخ "المترو" جمهورًا مخلصًا، سرعان ما راح يتوسع، فكما أن سكان بيروت صاروا في السنوات الماضية من عشاق مقاهي الرصيف المتكاثرة، باتوا اليوم جمهورًا محبًّا للمسرح ومقبلًا على عروضه. مسرحيات متنوعة، منها "الشونسونيه" الخفيف، ومنها الشعبي، الاحتجاجي الطابع، ومنها الرصين التراجيدي، كما التجريبي و"النخبوي" والترفيهي.
ما إن أنجز كارلوس شاهين مسرحيته البديعة "المجزرة" (مسرح "مونو")، حتى تشجع لينتج مسرحية مكلفة هي "بستان الكرز" ويعرضها في "مسرح المدينة". وبينما يقدم يحيى جابر آخر عروض "الطريق الجديدة"، التي استمرت سنتين متواصلتين، يستعد الآن ليطلق عمله الجديد "بيروت فوق الشجرة"، الذي سيدشن به أيضًا مسرحًا جديدًا في فردان (ابتداء من 7 كانون الأول، مسرح تياترو فردان - الدون). وفي هذا الوقت شهد مسرح "دوار الشمس" عرضين بارزين هما "أنشودة الفرح" لربيع مروة، و"عن العاج والجسد- التماثيل أيضًا تتألم" للفنانة البرتغالية مارلين مونتيرو فرايتاس وفرقتها. ومنذ أيام بدأت فيه عروض "شتوية قاسية"، وعادت الحياة إلى مسرح المركز الثقافي الروسي مع إطلاق عروض مسرحية عايدة صبرا "الست نجاح والمفتاح"، ويستأنف مسرح "بابل" نشاطه مع مسرحية "آب: بيت بيوت" لفرقة "تحويل"، إخراج سحر عساف ورافي فغالي. وفي مسرح مونو قدمت بيتي توتل عرض "مسرح الجريمة". وتستمر ندى أبو فرحات في تقديم " أسرار الست بديعة" على خشبة "المترو"، بينما يستمر العرض المسرحي الراقص "الحدود" في "مسرح المدينة" (الحمرا)، كما تقدم لينا خوري مسرحيتها "لماذا رفض سرحان سرحان ما قاله الزعيم عن فرج الله الحلو في ستيريو 71؟" على خشبة مسرح غولبنكيان (الجامعة اللبنانية الأمريكية – بيروت).
على وقع إقبال الجمهور على المسارح، وتكاثر الإنتاجات المسرحية، عاد مسرح "الجميزة" مع العرض الجديد البارع "إنجازات حياة" لكميل سلامة، سيرة ذاتية مؤثرة في إطار الكوميديا السوداء.
بل إن المسرح تمدد لتصل عروضه إلى قلب معرض الكتاب، فقدمت رائدة طه مونودراما "ألاقي زيك فين يا علي"، التي أخرجتها لينا أبيض. كما تقدم رويدا الغالي في المعرض ذاته (البيال) عرضها الأدائي "على ما أذكر" المستوحَى من نصوص الروائيين والشعراء اللبنانيين: عباس بيضون ، محمد أبي سمرا، حسن داوود، يوسف بزي، علوية صبح وإيمان حميدان.
هي تجارب كثيرة، وجمهور يطلب المزيد، فيعيد المسرح إلى متن الحياة المدينية. ومن دلالة هذا الازدهار الكمي والنوعي لفن المسرح وانتعاش أمكنته، هي رغبة سكان العاصمة الواضحة في معاكسة الوقائع السياسية والاقتصادية، مندفعين إلى المقاهي والمطاعم وأمكنة السهر وصالات السينما والمسارح.. مؤلفين هكذا، صخبًا ثقافيًّا حيويًّا، في مشهد نادر على الضدّ من حال منطقتنا ومدنها، الآيلة إلى الخراب والعنف.
aXA6IDE4LjIxOS4yNS4yMjYg جزيرة ام اند امز