لطالما تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما عن العبوديّة باعتبارها «الخطيئة الكبرى» للولايات المتحدة، ولعلّه يعرف عمّا يتكلّم.
لطالما تحدث الرئيس الأميركي باراك أوباما عن العبوديّة باعتبارها «الخطيئة الكبرى» للولايات المتحدة، ولعلّه يعرف عمّا يتكلّم. لكن الأيام التي اعتقد فيها، شأنه شأن كثيرين غيره، أن انتخابه هو خطوة مهمة نحو تحسين العلاقات بين العرقين الأسود والأبيض، قد ولّت بلا رجعة. والحال أن التفرقة العنصرية لا تزال تشكل جزءاً مهماً من واقع الحياة في معظم الولايات، وأن التوتر يبقى شديداً بين عناصر الشرطة البيض بمعظمهم، وبين المجتمعات المحلية السوداء في عدد كبير جداً من المدن، شمالاً وجنوباً على حد سواء.
وكذلك، ولّت أيام شهدناها أخيراً، شدد خلالها أوباما على كثرة الأسلحة بين أيادي كثرة من الناس. والآن، لا يتناول الرئيس في كلامه إلا الأزمة العرقيّة الأوسع نطاقاً في البلاد. وعلى ما يبدو، لا يملك هو أو غيره أدنى فكرة عن كيفية التطرق إليها، إلا على مستوى بدائي جداً في المجتمعات المحلية، ويدور الكلام هنا عن الولايات المتحدة، دولة هي عالم أحلام بحد ذاته، يمكن للحديث والحوار فيها أن ينتصرا دوماً على العنف والتطرف.
ما حصل طبعاً هو أن بعضاً من الوقائع الأساسية حول القضية بات الآن مفضوحاً للعلن بأكثر من طريقة، بدءاً بواقع متجل للعيان، مفاده أن بناء البلاد استند إلى نوع من العبودية الأفريقية، وبعكس العبودية في معظم أرجاء العالم العربي، كانت محفورة على أجسام العبيد أنفسهم من دون وجود أي احتمال لتغيير واقع الأمور. وبالتالي، وعلى رغم إلغاء العبودية رسمياً منذ أكثر من 150 عاماً، فإنها لا تزال مستمرة، وتتجلى في شتى أنواع التفرقة العنصرية بين العرقين الأبيض والأسود، في مدن على غرار بوسطن التي أقيم فيها، والتي تُعد من أكثر المدن انقساماً في الولايات المتحدة. وفي هذه المدينة، لا يُسمَح بوجود أي لون بشرة يكون ما بين بين، وعلى الجميع أن يكونوا إما بيضاً أو سوداً.
ومع هذا، تم التنديد بالاستعمال العنصري المتواصل لكلمات على غرار «عبد»، حتى لو قيلت بطريقة مهذبة. وهناك قلة قليلة من كبار المسنين الذين يذكرون جيداً عمليات الإعدام العامة التي طالت رجالاً من العرق الأسود. وبالتالي، لا تقتصر مسألة الانقسامات على الحوادث بين عناصر الشرطة والمجتمعات الأفريقية- الأميركية، بل تشمل أيضاً الانقسام إزاء طريقة التصدي للتوتر الناتج من هذه الحوادث، وسرعة معالجة تداعياتها، التي يراها بعضهم سريعة للغاية، ويعتبرها آخرون بطيئة جداً.
وكذلك، قد يستغل ضحايا عنف الشرطة وعناصر الشرطة أنفسهم التواجد الطاغي للكاميرات في كل مكان، التي تُظهِر بوضوح، عند كل إشارة مرور وفي كل مواجهة حاصلة، أدلة واضحة عن لون الأشخاص المعنيين، ولكن أيضاً عن كيفيّة تعامل عناصر الشرطة البيض مع السائقين السود والبيض. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد. فمع مراقبة رئيس البلدية وقائد الشرطة في باتون روج في ولاية فلوريدا أثناء تحدّثهما عبر التلفزيون الوطني عن آخر إطلاق نار في مدينتهما، يتجلّى بياض بذلتهما الرسمية، ويظهر تأثرها برب مسيحي قد لا تعني عظمته شيئاً بالنسبة إلى المشتبه به، وهو رجل أسود من قدامى قوات البحرية، تمت إدانته بتوجيه عدد من رجال شرطة المدينة نحو فخ مميت، حتى لو لم يذكرا بالحرف الواحد لون بشرة الشخص الذي أطلق النار.
ما من فسحة أمل ظاهرة وسط هذا الجو المسموم، لا سيما مع انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري في مدينة كليفلاند، وإرفاقه بتطبيق قانون حمل الأسلحة في العلن الذي يسمح للمحتجين من الحزب المنافس بحمل الأسلحة على مرأى من الجميع خارج قاعة انعقاد المؤتمر، وصدرت عن مُراسل للإذاعة الوطنيّة العامة ملاحظة تفيد بأن حمل الأسلحة في الخارج هو أكثر أماناً بكثير من حملها في الداخل.
وكذلك، أتصور أنها ليست مصادفة أن يصدر بالتزامن مع ما سبق فيلم وثائقي يفصل حياة أو جاي سيمبسون، وهو لاعب كرة قدم أميركي أسود معروف من سبعينات القرن العشرين، قتل زوجته البيضاء نيكول بدافع الغيرة، ونجا بفعلته بفضل جهود محاميه الأسود ولجنة تحكيم مؤلفة بمعظمها من أشخاص من العرق الأسود. ولا شك في أن الاستئناف قد يؤدي إلى تأكيد الحكم الصادر أو نقضه. لكن فقط، وأقله في هذه القضية، إن كان المدّعي واسع الشهرة وقادراً على توظيف أفضل فريق عمل قضائي أسود يمكن شراؤه بالمال.
هل تبقى الأمور دوماً على هذه الحال؟ هل يستمر الواقع القائم، حيث يتعرض المواطنون السود لإطلاق نار من عناصر الشرطة بمرتين ونصف أكثر من المواطنين البيض؟
سيضع المتفائلون حتماً آمالهم في الأدلة الجديدة المأخوذة من الكاميرات والمدعومة من توسيع نطاق التحقيق الجاري. وخير مثال على ذلك دراسة جديدة وضعها شخص وُصِف بأنه باحث «أسود» من «هارفارد» – وللون بشرته أهمية – تثبت أن من بين أكثر من ألف عملية إطلاق نار نفذتها عناصر الشرطة في عشرة مراكز شرطة رئيسة، وعلى رغم اختلاف تعامل عناصر الشرطة مع الرجال والنساء السود متى كان الأمر على صلة بأمور على غرار اللمس والتكبيل والدفع على الأرض وإطلاق رذاذ الفلفل في العيون، لم يكن الأمر كذلك متى تعلّق الأمر بعمليات إطلاق نار فعلية، بغض النظر عما إذا كانت فتّاكة أم لا.
يمكن طبعاً إعطاء تبرير والقول إن ضابط الشرطة الأكثر غباءً، في أكثر الأماكن نأياً في البلاد، سيكون مجنوناً لو أطلق النار على رجل أسود، حتى لو كان المقصد هو جرحه فقط، لتكون بالتالي، وإلى حد ما، خطوة تم تحقيقها إلى الأمام. لكن مدى اعتبار الأمر مريحاً هو مسألة أخرى، لا سيما أن كثيرين بيننا في الغرب يرون أن العنف ما عاد بعيداً، ويعتبرون أنّ شعورنا بالأمان تشتت بسبب قطع الرؤوس على يد «داعش»، وبسبب الغارات الأميركية التي تنفذها طائرات من دون طيار، ولكن أيضاً بسبب العنف الممكن أن يصدر عن عناصر الشرطة.
أما المسرحية الموسيقية الجديدة الرائجة على مسرح برودواي، بعنوان «أليكساندر هاميلتون»، فتستند إلى مفهوم يفيد بأن أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة كان أسود. وقد يكون الأمر مدعاة للافتخار، لكن في هذه الحال تحديداً، نرى أن حتى ذلك الأب المؤسس كان يملك عبيداً من العرق الأسود.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة