ليس من هدفنا رسم بورتريه لأردوغان فالصور الفوتوغرافية تكفي.
ليس من هدفنا رسم بورتريه لأردوغان فالصور الفوتوغرافية تكفي، منذ غادر المنصّةفي دافوس احتجاجا على خطاب شمعون بيريز حتى تصريحاته بعد مقتل عدد منالاتراك في سفينة مرمرة التي حاولت اختراق حصار غزة، فالرجل على ما يبدو قررمنذ ظهر على المسرح السياسي ان يلعب دورا يعيد الباب العالي الى الاستانةالجديدة، ولمثل هذا الدور متطلبات وشروط محلية واقليمية ودولية ايضا، لكن اردوغانقبل ان يبدأ بتحقيق حلمه، اصابه التورم النرجسي وطاش كما يقال على شبر دم عربيفي سوريا ، لهذا لم تصبح الاردوغانية او ما يسمى كذلك من باب المجاز والتجاوزواقعا في تركيا كما كان الحال من قبل في الاتاتوركية، ولعل سبب تعجّل اردوغان فيلعب دور البطولة في الاقليم على الأقل كان احساسه بأن هناك فراغا عربيا نتج عنالشيخوخة السياسية لبعض النظم العربية او عن تفكيك دول وجيوش كما حدث فيالعراق، ووجد بالتأكيد من زيّنوا له الدّور، فبدأ يطرق بابا آخر هو باب الأسلَمة،واستقطاب التيارات الاسلامية في العالم العربي خصوصا حين وصل بعضها الىالسلطة وسدّة الحكم .
لكن هذا الباب لم تكن له الأولوية عندما دميت قبضته من طرق باب الناديالاوروبي، حيث استجاب لكل شروط سادة النادي وسال لعابه على العتبة لكن البابلم يصرّ، ولم تنفع معه حتى عضوية الناتو، الذي استضاف تركيا بموجب مادةاستثنائية من دستوره هي المادة السادسة التي رأت في تركيا مجرد درع على خاصرةالاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة .
لقد خدع أردوغان بعض العرب لبعض الوقت، وهناك محال تجارية في بعضالعواصم العربية حملت اسمه تعبيرا عن امتنان ازاء مواقفه من القضية الفلسطينية،لكن من عجزوا عن قراءة ما بين السطور في تصريحاته المعادية لتل أبيب سرعان ماصحوا من الغيبوبة السياسية، والتي كان سببها انتظار المخلّص او السلفادور كمايُسمى في امريكا اللاتينية، وبالتأكيد كان أردوغان وذراعه الدبلوماسية والايديولوجيةاوغلو على دراية بما يعانيه العرب من فائض الانتظار لمن ينوب عنهم في الصراعومن صفّقوا لمغادرته منصة دافوس اثناء وجود الامين العام للجامعة العربية يومئذعمرو موسى وجّهوا عتابا قاسيا للأمين العام لأنه بقي في مكانه، ولم يخطر ببالهمللحظة ان عمرو موسى لو اقتفى خطى أردوغان في ذلك المشهد المسرحي لجرّ وراءهثلث مليار عربي الى الباب العالي . الآن وبعد تساقط الاقنعة تباعا في انقرة نضطرلاعادة قراءة بعض الوقائع بأثر رجعي لأن ما تكشّف من نوايا الهيمنة ونستولجياالعثمنة وأحلام استعادة الخلافة يفرض علينا قراءة اخرى لاطروحات سياسية كانتتحمل في باطنها وطياتها نقيضها .
وقد تكون الازمة السورية هي ما اظهر أردوغان على حقيقته، فكان اول من تعامل معتلك الازمة براديكالية تدعو الى الرّيبة، واتضح للجميع ان الرجل يسعى لتفجير الازمةوليس انفراجها، وله اسبابه في ذلك، وفي مقدمتها اطماع قديمة في سوريا، وكان مذاقلواء الاسكندرونة العربي الذي احتلته تركيا يدعو الى المزيد من التهام الارض، ولو كاناردوغان صادقا في خطابه المتأسلم لا الاسلامي لتذكر ذلك اللواء المسروق، لكنالمقولة الشهيرة عن الحق الذي يُراد به جملة من الاباطيل وليس باطلا واحدا،تجسّدت لدى اردوغان في موقفه من مصر، فهو لم يتردد في العديد من المناسباتومنها ما هو دولي في التنديد بالقاهرة، وقرأ الحركات السياسية التي حدثت في مصرخلال بضع سنوات بعين واحدة، كانت تقول مبتدأ الجملة السياسية ثم تصمت عنخبرها، فهو تعامل مع مصر برغائبية عثمانية او بما ترسّب منها، وجاءت الاحداثالاخيرة بدءا من اسقاط طائرة سوخوي الروسية بمثابة افتضاح سياسي للرجل، فهورفض الاعتذار وكرر كلمة السيادة التركية مرات تدعو الى التشكيك في وجودها، لكنهسرعان ما قال انه لم يكن يتمنى سقوط الطائرة ثم انه لو كان يعرف انها روسية لماأُسقطت، وحاصل جمع هذه التصريحات والاستدراكات هو اكثر من مجرد اعتذار،والارجح ان اردوغان كان يعوّل على اعضاء الناتو لحفظ ماء الوجه ناسيا او مُتناسياان الولايات المتحدة واوروبا تستخدم تركيا جوا وبرا وبحرا لحروبها لكن لا تقبل استخدامتركيا لها، ربما لهذا السبب توارت واشنطن وراء حلفاء آخرين كي لا تكون في الواجهةمقابل موسكو، وقد يكون هناك من انصار اردوغان واوغلو من استعادوا ازمة خليجالخنازير في كوبا في مطلع الستينيات من القرن الماضي، لكن لتوظيف الحدث علىنحو معكوس وغاب عنهم ان العالم تغيّر كثيرا، وان اوروبا التي رفضت استضافتهمفي ناديها خشية من اسلمة الاتحاد كما قال ساركوزي قبل مغادرة الاليزيه سوف تقفمعهم في خندقهم المتأسلم الجديد الذي يحتشد فيه من صدقوا ان الباب العالي علىوشك العودة ، وان العروبة مجرد تهمة تركية يعلق من ينطق باسمها على المشانق فيعاليه، او ان العسس العثماني سيعود لنبش سرير الكواكبي المطارد والذي لجأ الىمصر او اغراق مخطوطات الرائد عمر الفاخوري في بئر ماء .من صدّقوا اطروحةعودة العثمنة تناسوا ان جدّاتهم وامهاتهم اميّات بفضلها وان مدرسا من الشام دفعحياته ثمنا لاستخدام رمز الماء في درس الكيمياء وهو ، لأن العسس وشى به الىالباب العالي وفسّر هذا الرمز الكيميائي سياسيا بحيث اصبح حميد الثاني صفرا !واذا كانت انقرة الاردوغانية تحلم باعادة تقسيم العالم العربي في الاحتفال المئويلسايكس بيكو بحيث تظفر بالغنائم فإن عليها ان تتذكر تلك المعاهدة بينها وبين موسكووالتي تهدد موسكو بعدم تجديدها، والتي تخسر تركيا بسببها ارضا وبشرا وسيادة ايضا!!ولو كان اردوغان قرأ هيجل او ماركس او حتى الكاتب الارمني وليام سارويان لأدركان التاريخ لا يتكرر مرّتين وان تكرر فإما بشكل كوميدي او مأساوي ولو قرأ قصيدةلأدغار الن بو لتأكد ان ما مضى لن يعود !!
ويخطىء كثيرا اردوغان حتى لو كان طبعته منقّحة ومزيدة من اتاتورك ان التاريخسيتيح له تعيين واليا في دمشق او القاهرة او بغداد ! انه يذكّرنا بواليه على بغدادداوود باشا الذي يروي مؤرخو العراق انه صُدم فور وصوله بغداد من شدّة الحرّ،وحين قيل له ان هذا الحرّ ضروري لانضاج العنب والتين والنخيل أمر بخلع هذاالشجر من جذوره او احراقه!! نعم، لقد خدع اردوغان بعض العرب لبعض الوقتومنهم من صدّقوا انه سينوب عنهم في تحرير المُحتل من ارضهم او انه سيحققالعدالة عندما يستعيد دور البطولة في واحدة من اكثر مسرحيات التاريخ كوميدية !!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة