بعد إخفاق محادثات جنيف 1 و2 واحد، في إطلاق مسار سياسي فاعل لإنهاء الحرب في سورية، أتت محادثات فيينا الأخيرة.
أكد المنظّر العسكري الروسي كارل فون كلاوزفيتز أن «الحرب هي استمرار للسياسة لكن بوسائل أخرى» وهذا صحيح في حالة الحروب الأهلية التي تستخدم فيها الأطراف المتنازعة الوسائل العسكرية لتحقيق مكاسب سياسية، وفيما عدا الحالات التي تنتهي فيها هذه الحروب بالنصر الكامل لطرف على الطرف الآخر، فإن معظم الصراعات المسلحة، خاصة الحروب الأهلية تتطلب مسارًا طويلاً وشاقًّا من المفاوضات السياسية لإنهائها، إن وظيفة التفاوض السياسي هي تحويل الصراع من مسار القتال المسلح إلى مسار ينتهي إلى وضع الخطوط العريضة لنظام سياسي جديد.
بعد إخفاق محادثات جنيف 1 و2، في إطلاق مسار سياسي فاعل لإنهاء الحرب في سوريا، أتت محادثات فيينا الأخيرة ومؤتمر الرياض لإعطاء فرصة جديدة، لا شك في أن طريق الحل السياسي في سوريا سيكون طويلاً وشاقًّا، ولكن بعد أربع سنوات من الصراع المسلح، فإن بداية عملية تفاوض جادة، تضم الفرقاء في الداخل والأطراف المتدخلة من الخارج قد أصبحت حاجة ملحة تأخرت كثيرًا.
صحيح أنه لا توجد حالتان من الحروب الأهلية متشابهتان في كل الملامح، ولا يمكن نقل أي دروس نقلاً متطابقًا من حالة إلى أخرى، ولكن هل هناك أي دروس يمكن تعلمها -أو أخطاء يجب تفاديها- من تجربة المجتمع السياسي المجاور لسوريا، لبنان؟
أولاً: بدأت المفاوضات السياسية في محاولة لإنهاء الحرب الأهلية اللبنانية في وقت واحد تقريبًا مع اندلاع النزاع المسلح في عام 1975، وكانت النتيجة الأولى من ذلك إصدار الوثيقة الدستورية لعام 1976 التي اتفقت على التمثيل بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين في البرلمان، وتتابعت مفاوضات ووثائق أخرى في السنوات التالية، ولكن حتى في حالة الحرب اللبنانية فقد استغرق الأمر أربعة عشر عامًا إلى حين التوصل إلى تسوية الطائف النهائية في عام 1989، إن النزاع السوري في نواح كثيرة أكثر تعقيدًا وعنفًا من النزاع اللبناني، كما أن المحادثات بين السوريين ذاتهم لم تبدأ بعد، ولكن المنطقة لا تتحمل أن تنتظر 14 عامًا لإيجاد حل سياسي للحرب السورية، فعلى المسار التفاوضي حول سورية أن ينطلق ويتابع في شكل سريع ومكثف، ليس كالمسار اللبناني البطيء.
تتطلب أي مفاوضات ناجحة أن تكون الأطراف الداخلية والخارجية على استعداد لتقديم تنازلات، في لبنان، أمسى معظم الأطراف الداخليين مستعدين في شكل عام للتفاوض الجدي بعد انسحاب منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982 وبعدها انسحاب القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات، ولكن انتهاء الحرب اللبنانية كان عليه أن ينتظر نهاية الحرب الباردة مع تراجع وانهيار الاتحاد السوفياتي في 1989-1990.
إن التدخل الروسي في سوريا عقد بالتأكيد الصراع السوري، لكنه قد يخلق أيضًا فرصة للتوصل إلى حل سياسي، إن الرئيس بوتين يريد تثبيت الوجود الروسي في شرق البحر المتوسط لكنه لا يريد أن يتورط طويلاً في حرب أهلية لا نهاية لها، والولايات المتحدة تريد أيضًا إنهاء حالة عدم الاستقرار والوصول إلى حل تفاوضي للنزاع، ومع تمكن بوتين من فرض مزيد من النفوذ على الرئيس الأسد ونظامه، فإنه قد يكون في وضع أفضل لإلزام النظام بتقديم تنازلات سياسية فعلية في الوقت الذي يستطيع أن يضمن بوجود قواته، بقاء الدولة ومؤسساتها.
قد يستمر التفاوض السياسي والصراع المسلح سنوات جنبًا إلى جنب، ولكن حتى إذا استغرقت المفاوضات سنوات، فإنه كان واضحًا في الحالة اللبنانية، أن وقف إطلاق النار، حتى وإن كان محدودًا في الزمان أو المكان، كان لا بد منه كعنصر أساسي خلال مسار المفاوضات الطويلة، من أجل السماح للمدنيين بإعادة بناء حياتهم حيثما أمكن وتأمين لقمة عيشهم ورعاية عائلاتهم، وعلى الرغم من أن الحرب الأهلية اللبنانية استمرت خمسة عشر عامًا، فإنه في معظم الوقت من تلك السنوات وفي كثير من المناطق، كان معظم اللبنانيين قادرين على استئناف الحياة شبه الطبيعية، في حين ظلت الأوضاع الوطنية العامة من دون حل، فحسنًا أدرج موضوع وقف إطلاق النار في بيان مؤتمر فيينا.
فيما يتعلق بالنقاش حول الشكل الأساسي للحكم، انتقل لبنان من نظام برلماني-رئاسي، كانت للرئيس فيه اليد العليا، إلى النظام الحالي حيث للبرلمان اليد العليا، على الرغم من أن كل النظم السياسية الرئاسية منها والبرلمانية تشوبها أوجه قصور، إلا أن هناك ضرورة للتشارك في السلطة على نطاق واسع بعد حرب أهلية، وهذا يجعلنا نميل بقوة في الحالة السورية لمصلحة نظام برلماني لا رئاسي، ويمكن لرئيس أن يحتفظ ببعض الأدوار الدستورية، كما هي الحال في لبنان والهند وألمانيا وفنلندا، ولكن السلطة السياسية يجب أن تكون مشتركة على نطاق واسع في برلمان يمثل كل الأطراف، ولا بد أن تناط السلطة التنفيذية بحكومة وحدة وطنية واسعة تضم أطرافًا وأحزابًا متعددة.
في أعقاب أي حرب أهلية يجب كذلك أن تكون اللامركزية جزءاً أساسياً من النظام الجديد، فقد ضمّ اتفاق الطائف توافقاً على اللامركزية الإدارية الموسعة، ولكن بعد أكثر من نصف قرن لم يزل السياسيون اللبنانيون يقفون ضد تنفيذه مفضلين احتكار السلطة والثروة في أيديهم، لا بد أن تكون اللامركزية عنصراً أساسياً من سورية الجديدة، سواء في شكل اللامركزية الإدارية الموسعة، أو في بعض الحالات، كما هي الحال ربما في بعض المناطق الكردية، على شكل من أشكال الفيديرالية، لا توجد مشكلة أساسية في التفاوض حول أشكال متنوعة من اللامركزية، كما هي الحال في إسبانيا حيث للمناطق المختلفة مستويات مختلفة من الإدارة المحلية الذاتية.
يجب على السوريين ألا يقعوا في أخطاء اللبنانيين ذاتها وذلك بالسماح للميليشيات المسلحة بالاستمرار في الدولة بعد انتهاء الحرب، فقد تمّ حل معظم الميليشيات اللبنانية بعد اتفاق الطائف، ولكن سمح لـ «حزب الله» بالاحتفاظ بسلاحه إلى أجل غير مسمى، لكن لبنان كان في وضع خاص وكان في مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي، في سورية يجب على جميع القوات الغريبة التي تتواجد فيها الانسحاب بما فيها «حزب الله» وجميع المقاتلين غير السوريين الآخرين، ويتمّ حل المليشيات السورية ودمجها بالقوات النظامية للدولة، فقط بعد توحيد البندقية السورية تحت كنف الدولة الجديدة يتاح المجال لسحق «داعش» وأخواته.
وبينما من الضروري جدًّا أن يركز السوريون واللاعبون الدوليون على سبل إنهاء الحرب الأهلية السورية بأسرع وقت، يجب عليهم أيضًا توجيه انتباههم إلى الكارثة الإنسانية لملايين اللاجئين والمشرّدين المستمرة حالياً وإيجاد كل السبل لتوفير الأمان والمساعدة لهم.
إنّ حجم النزوح البشري من سوريا يفوق بمراحل ما شهدته لبنان، ويتطلّب مساعدة دولية وإقليمية ملحّة وضخمة، كما يجب التحضير منذ الآن لمهمات إعادة الإعمار، وستكون مهمات إعادة البناء بعد الحرب في سوريا أكثر صعوبة من الحالة اللبنانية، لحجم الدمار وامتداده في المدن والأرياف وفي سائر البنى التحتية، إلاّ أن السوريين، مثل اللبنانيين، لديهم قدرة الصمود وروح المبادرة، لهذا البلد العريق تاريخ طويل من تخطّي النكسات ورسم آفاق جديدة، ولبنان، رغم كل متاعبها، تمكّنت من إنهاء عقد ونصف عقدٍ من حرب أهلية طاحنة، وإقامة ربع قرن من الاستقرار النسبي تتعايش فيه الشرائح والطوائف المختلفة وتتواصل في مجتمع منفتح وحر.
بالطبع لا يوجد بَلَدان يتطبقان تمامًا في مساراتهما الوطنية، لكنني واثق من أن السوريين سوف يجدون أيضًا مسارهم الخاص للتحوّل من الحرب إلى السلم لكي «يطبعوا سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل»، يوظّفونها في بناء نظام سياسي جديد ومجتمع يسوده التعايش والاستقرار وإعادة الإعمار.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة