هذا المقال سيركز على الأدوار الأمريكية نظرًا إلى احتدام النقاش حول المواقف الآنية بتجاهل تام لخلفية وأبعاد السياسات الأمريكية.
إذا لم تعترف الدول الكبرى -سيما الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن- بأدوارها الفاعلة في خلق ظاهرة وتنظيم «داعش»، لن تكون وعود حروبها على هذا التنظيم جدية أو رصينة، وإذا بقيت هذه الدول في حال إنكار لما يقتضيه القضاء على «داعش» لجهة التحالفات الإقليمية ومقوّمات التجنيد والتعبئة الضرورية للعرب السُنَّة، سيجد العرب الشيعة أنفسهم الطعم في مصيدة تُدّبر لهم إما عمدًا في سياسات مكيافيلية أو سهوًا في قصر نظر أسطوري، وسيتفاقم خطر الانتقام داخل هذه الدول ذاتها مع النمو «الداعشي».
بالأمس ضرب الإرهاب باريس ثم كاليفورينا، وغدًا قد يصل إلى لندن وموسكو وربما بكين وواشنطن ما لم تتوقف الدول الخمس عن دفن الرؤوس في الرمال والتظاهر بأنها بريئة من إثم خلق «داعش» وأمثاله من التنظيمات الإرهابية، أما الدول العربية، الخليجية والشرق أوسطية والشمال إفريقية، فإنها معًا مع إيران وتركيا وإسرائيل وباكستان وأفغانستان مسؤولة جذريًّا عن نشوء التنظيمات الإرهابية، بدءًا من «القاعدة» الذي وُلِدَ في أعقاب شراكة دولية لصنع الأصولية الإسلامية من أجل إسقاط الاتحاد السوفياتي عبر البوابة الأفغانية، فلا أحد بريء من تصنيع الحركات الجهادية المتطرفة كأدوات، كلٌ لغايته، والجميع يعي تمامًا ماذا يتطلب سحق «داعش» وأمثاله لو توافرت جدية العزم والجرأة على القرارات، المشكلة أن كل اللاعبين الكبار، الدوليين والإقليميين، في غنى عن الذعر والهلع طالما هذه الحرب تُشَّن بعيدًا عن مدنهم «هناك» في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وكلها في البقعة العربية، المشكلة أن هؤلاء اللاعبين يبدون في غنى عن وضع برامج زمنية لإستراتيجيات عملية ذات بداية ونهاية وأهداف محددة، وذلك لأسباب مختلفة بين لاعب وآخر، بعضها يصب في تناقض مباشر يقوّض جذريًّا الأرضية الجدية المزعومة لما يسمى الحرب على «داعش»، فبعض الإقرار مفيد كثيرًا كي لا يؤدي الإنكار إلى أسوأ ليقال بعده «لو كنا نعلم».
هذا المقال سيركز على الأدوار الأمريكية نظرًا إلى احتدام النقاش حول المواقف الآنية بتجاهل تام لخلفية وأبعاد السياسات الأمريكية المتتالية.
ظاهرة دونالد ترامب مدهشة ليس بسبب عنجهيته اللامتناهية وانصبابه على غروره بفورة غير طبيعية، إنها مدهشة لأنه يتقدم المرشحين الجمهوريين الذين يسعون وراء الترشح عن الحزب للرئاسة، مهما غالط وأساء وتصرف بازدراء أو حرّض بغباء، شعبيته تنطلق أساسًا من استياء الأمريكيين من الطاقم السياسي التقليدي الذي يتمثل حاليًا بالرئيس الديمقراطي باراك أوباما والمرشحة المفترضة للحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون وزوجها الرئيس السابق بيل كلينتون، واستياء أيضًا من مساعي هيلاري وبيل توريث القيادة السياسية والسعي وراء البيت الأبيض لوحيدتهما تشيلسي، وكأن عائلة كلينتون تبني «دايناستي» شأنها شأن عائلة بوش التي حصدت رئاستين لجورج الأب والابن، ويسعى جيب بوش الآن وراء رئاسة ثالثة.
لكن الخوف من تكرار إرهاب 11/9 -الذي طبع «الإرهاب الإسلامي» في أذهان الأمريكيين- هو المحرّك الذي يستخدمه دونالد ترامب لتعبئة الرأي العام وراءه، إرهاب سان برناردينو على أيدي زوجين مسلمين كان أول عملية إرهابية منذ إسقاط البرجين قبل 14 عامًا على يد «القاعدة»، وترامب وجد في ذلك فرصة لإطلاق الدعوة إلى «حظر كامل» لدخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، هذا بعدما كان البليونير -الذي له علاقات مالية مع العرب والمسلمين منذ سنوات عديدة- تعمد التحريض ضد العرب والمسلمين مستعيدًا 11/9 زاعمًا أن الآلاف رقصوا ابتهاجًا لسقوط البرجين في نيوجرزي.
بغض النظر أن كان هذا الرجل الطموح مهرجًا خطيرًا، أو ممثلًا تلفزيونيا بارعًا، أو مرشحًا جديًّا للرئاسة الأمريكية، أو منتهكًا للدستور الأمريكي، فإن ابتهاج نسبة كبيرة من الجمهوريين به إنما هو مؤشر إلى سذاجة وإنكار لدى شطر كبير من الرأي العام الأمريكي، فالتاريخ لم يبدأ مع دونالد ترامب، والتاريخ يشهد على أدوار خطيرة لمختلف الإدارات الأمريكية حين أسهمت عمدًا في صنع الأصولية الإسلامية، ولعبت أوراق التحريض المذهبي بين السُنَّة والشيعة منذ أواخر السبعينيات حتى يومنا هذا.
الرئيس الديمقراطي المسالِم -الذي حصل على جائزة نوبل- جيمي كارتر مكث في البيت الأبيض من 1977 حتى 1981، وفي عهده قامت الثورة الإيرانية عام 1979، وولدت الجمهورية الإسلامية على أيدي الملالي الشيعة بقيادة الخميني، الذي عاد من باريس ليحل مكان شاه إيران، في عهده أيضًا وقع الغزو السوفياتي لأفغانستان.
الرئيس الجمهوري رونالد ريجان أطلق أكثر من عملية ملفتة منها التودد إلى الملالي في طهران عبر فضيحة «الكونترا - إيران»، إنما من أبرز ما فعله هو حشد الجهاديين وتدريبهم على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية بمشاركة من مختلف الدول الإسلامية، لتشجيعهم وتعبئتهم لمحاربة الملحد الشيوعي -وهكذا سقط الاتحاد السوفياتي في أفغانستان، وبعدما قام الجهاديون بالمهمة استغنت عنهم واشنطن، فيما ظنوا أنفسهم حلفاء، وهكذا ولد تنظيم «القاعدة».
في عهد ريجان ما بين 1981 و1989 استعرت الحرب الإيرانية-العراقية التي دعمت فيها إدارة ريجان الرئيس العراقي السابق صدام حسين وأجّجت صراعًا طائفيًّا بين القيادة السنّية في العراق والقيادة الشيعية في إيران، حينذاك، وقفت واشنطن رسميًّا مع صدّام فيما غازلت ملالي طهران.
ثم في عهد الرئيس جورج بوش الأب 1989 - 1993 وقعت حرب الخليج الأولى حين غزا صدام حسين الكويت، البعض يقول برسالة غض نظر مسبقة سلّمتها السفيرة الأمريكية إبريل جلاسبي إلى صدام عشية مغامرته عام 1990.
وفي عهد الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون 1993 - 2000 انقلبت واشنطن رسميًّا على حليفها السابق صدام واستمرت في التودد لإيران، في عهده أنجزت الأمم المتحدة نزع الأسلحة المحظورة في العراق.
الرئيس جورج دبليو بوش دخل البيت الأبيض عام 2001 وغادره عام 2009 بعدما خاض حربين، قال إنهما انتقامًا لإرهاب 11 سبتمبر/أيلول 2001، بدلًا من التركيز على استهداف «القاعدة»، قرّرت إدارة بوش التخلّص من حكم «طالبان» في أفغانستان وإسقاط حكم صدام حسين في العراق -ثبت لاحقًا أنها ملفّقة- حجة امتلاك أسلحة دمار شامل، ما فعله بوش الابن هو أنه خلَّص ملالي طهران من عدوّين لدودين في جيرتها العراقية والأفغانية وقدم لهم العراق على طبق من فضة، وهكذا عوّضت واشنطن لطهران عما فعلته في أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، لتلعب هذه المرة الورقة الشيعية عكس ما فعلته في أثناء تلك الحرب المدمرة عندما لعبت الورقة السنّية لمصلحة صدام.
بين أخطر ما قام به جورج دبليو بوش هو تفكيك الجيش العراقي تحت عنوان «اجتثاث البعث» وإطلاق عنان الانتقام الشيعي من التسلط السنّي، الذي ساد في عهد صدّام، فهؤلاء هم نواة ما أصبح لاحقًا يُعرف بـ «داعش»، وهم -على الأرجح- جزء من القيادة العليا لهذا التنظيم السنّي المتطرف، الذي أطلق على نفسه لقب «الدولة الإسلامية في العراق والشام».
ما بدأه جورج دبليو بوش الجمهوري أكمله الرئيس الديمقراطي باراك أوباما في النقلة النوعية في العلاقة مع إيران، كلاهما غض النظر عن كون حكم الملالي حكمًا «ثيوقراطيًا» والأول في المنطقة ليدشن جمهوريات فرض الدين على الدولة، أوباما تعمد غض النظر عن التجاوزات الإيرانية في العراق وسوريا واليمن ولبنان، قدّم إلى الملالي الاعتراف بشرعية نظامهم، والاعتراف بحقوق إيران بالتخصيب النووي، والتعهد بعدم التدخل في الشأن الداخلي تحت أي ظرف كان، وكذلك الإقرار والاعتراف بدور إقليمي للملالي يتعدّى حدود دولتهم ليطاول الدول المجاورة، وهذا، بالتأكيد، أسهم في تأجيج العداء الشيعي – السنّي، سيما أن إيران تحارب في سوريا لمصلحة بشار الأسد وتدعم المليشيات الشيعية في العراق.
الهدف من وراء التذكير بتاريخ الإدارات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط ومع المسلمين عامة ليس تبرئة المسلمين أو العرب من إرهاب 11/9، أو إرهاب «القاعدة» أو «داعش»، أو أي تنظيم يشبههما، الهدف هو التحذير من إنكار مسؤولية المساهمة في صنع الأصولية السنّية والشيعية والإرهاب الإسلامي، فكما يقول المثل الأمريكي «إن كنت أنت الذي يكسرها، فإنها تصبح ملكًا لك».
فهذا الاستثمار المستمر في تغذية الصراع السنّي - الشيعي سيرتد على شيعة إيران والشيعة العرب مهما بدا الشريك المفضل لأمريكا اليوم، أي إيران أو حلفائها، مرتاحين لذلك، هذا الاستثمار سيفرّخ المزيد من الإرهاب السنّي الناقم على التحالف الأمريكي - الروسي – الإيراني، والذي قد يأخذ عملياته إلى عقر دار من يعتبرهم أعداءً لأسباب مذهبية، وحلفاءً في تقزيم السُنَّة.
إلحاق الهزيمة بتنظيم «داعش» وأمثاله تطلب بكل تأكيد حشد السُنَّة العرب في الحرب عليه، إنما هذا مستحيل على القيادات العربية طالما يرى السُنَّة أن إقصاءهم داخل بلادهم سياسة تدعمها الولايات المتحدة، وأن ما يقدمونه في إطار محاربة «داعش» يأتي في الدرجة الثانية لأولوية تحالف الأمر الواقع بين واشنطن وطهران، وموسكو وطهران.
حذار هذا الاستثمار في اعتبار المليشيات الشيعية و"الحرس الثوري" الإيراني الحلفاء الطبيعيين في الحرب على «داعش» والإرهاب السنّي، فأولًا: لا انتصار في هذه الحرب بمثل هذا التحالف. وثانيًا: لا انتصار في تلك الحرب من دون السُنَّة العرب، ولذلك إن أذكى ما يمكن واشنطن، لو شاءت حقًا أن تصوغ جبهة جدية في وجه إرهاب «داعش» وأمثاله، هو الكف عن لعبة تنمية الإرهاب الشيعي في وجه الإرهاب السنّي.
وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر بدا ضعيفًا جدًّا وهو يواجه استنطاق لجنة مجلس الشيوخ برئاسة السناتور جون ماكين، أجوبته كانت سطحية حتى وهو يعرض الدعم في معركة الرمادي على الحكومة العراقية، كان سطحيًّا في أجوبته عندما تحدّى الدول الخليجية الحليفة الرسمية في التحالف الدولي بقوله إن ايران متواجدة ميدانيًّا عسكريًّا، وهم لا، كان ذلك اعترافًا بأن السياسة الأمريكية ليست -كما يُظَّن- عشوائية، إنها مدروسة، وهي خطيرة، والمشكلة أن واشنطن تُدرك تمامًا الحاجة الماسة إلى عنصر الشراكة السنّية في دحض «داعش» لكنها تختار ألاّ تقوم بما من شأنه إقناع الشريك الضروري بتلك الشراكة.
ما تحتاج واشنطن إليه لأن تفكر فيه هو الكفّ عن تزكية إيران لموقع القيادة في الشرق الأوسط، إنها بذلك تورط شيعة إيران والشيعة العرب سهوًا، إن لم يكن عمدًا، إنها بذلك تحرث الأرضية لإرهاب آتٍ إلى الولايات المتحدة مهما بدا اليوم مستبعدًا.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة