طرحنا في المقال السابق سؤالاً مفاده: هل سكت علماء الأزهر المعتبرون عن عَرْض الأفكار التي تؤدى إلى إيجاد كيانات موازية
طرحنا في المقال السابق سؤالا مفاده: هل سكت علماء الأزهر المعتبرون عن عَرْض الأفكار التي تؤدى إلى إيجاد كيانات موازية أو التي تؤدى إلى زعزعة البنيان التشريعي للدول الحديثة؟
والمتأمل لمواقفهم يجد بوضوح أنهم نظروا إلى أن كينونة الدولة بمفهومها المعاصر إنما يحقق المصلحة للمجتمع، ويؤدي إلى استقراره، ومن ثم وجب الدفاع عنه، ومواجهة كل ما يؤدي إلى الإخلال به.
ولهذا فإنهم رفضوا جملة من الأفكار المعروضة في وقتهم، التي لا يزال بعضها ساريًا ومطروحًا حتى الآن، فمثلًا رفضوا فكرة أن الشريعة الإسلامية غائبة عن واقع المجتمعات المسلمة جملة وتفصيلًا؛ حيث نظروا إلى واقع الناس في مجال ممارسة شعائرهم الدينيَّة التعبدية، فوجدوا أن المسلمين المصريين يقيمون الصلاة في أوقاتها، ويؤتون الزكاة ويصومون ويحجون ويعتمرون إلى بيت الله الحرام دون موانع أو قيود تشريعية تمنعهم من أداء ذلك، مما يؤكد أن الشريعة موجودة في حياة المصريين ومطبقة في واقعهم ظاهرًا وباطنًا، حالًا ومقالًا.
وبذلك لم تغب الشريعة يوما عن واقعنا حتى نستدعيها مرة أخرى، ومن ثَمَّ فإن الدعوة إلى تطبيقها مع هذا المستقر تكون مخالفة للواقع وتثير العديد من التساؤلات ووضع علامات الاستفهام عن المقصود من ورائها ما دام أن الواقع ينطق بوجودها.
وإذا قيل إن هذا ليس محل النزاع، بل النزاع في التشريعات المطبقة في واقع الناس مما لا يدخل في باب العبادات أو بالأحرى مما يدخله حكم الحاكم بتعبير الفقهاء، كالقانون المدني والقانون الجنائي وغير ذلك من أنواع القوانين، وهذا هو محل النزاع في تطبيق الشريعة، كما تصور هذه الكيانات الموازية للدولة.
فالجواب: إن هذه التشريعات الموجودة لا يمكن الحكم عليها جملة واحدة وفي عبارة عامة بأنها «مخالفة للشريعة»؛ إذ هذا يخالف المنهج العلمي في الحكم على الأشياء، بل لا بد من التفريد والنظر إلى كل نصٍّ تشريعي على حدة، ودراسته دراسة متأنية حتى نحكم في مخالفته أو عدم مخالفته للشرع الشريف.
وهذا ما فعله واقعًا علماء الأزهر الشريف في مراحل مختلفة من التاريخ المعاصر، فقد كُلِّف مثلا الأستاذ الشيخ مخلوف المنياوي رحمه الله بالنظر في القانون الفرنسي ومدى موافقته لأحكام الفقه الإسلامي، فقام بعرض كل مادة على حدة بنصها الفرنسي ثم ترجمتها إلى العربية ثم مضاهاة ذلك بما جاء في الفقه المالكي، منتهيًا بعد هذا العرض إلى أن أكثر هذه النصوص بما يقارب ثلاثة أرباع النصوص يوافق ما انتهى إليه السادة المالكيَّة من اجتهادات في فهم الأدلة الشرعيَّة، وهذا كله مسطور في كتابه الماتع «المقارنات التشريعية»، وهو منشور متداول.
ثم يأتي فضيلة الإمام الأكبر الشيخ مصطفى المراغي، ويضع النقاط على الحروف في قضية مهمة تتعلق بالاستقرار المجتمعي والتشريعي، ويرى أنه عند النظر في أي نص تشريعي يعالج مسألة ما، نجد أن الشريعة وفهم الفقهاء لها يتسعان لهذه المسألة ولكل ما يمكن أن يحدث من مسائل، من خلال دور العقل الفقهي الرشيد في استنباط حكم لهذه الوقائع، حيث يقول (نقلا عن كتاب «الشيخ المراغي والإصلاح الديني في القرن العشرين» ص 22): «ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم».
ويرى فضيلة الشيخ حسن مأمون، مفتى الديار المصرية في السبعينيات، في جوابه عن سؤال: امتناع قاضٍ عن مباشرة عمله بحجة أن القوانين وضعية، فأجاب بأسلوب تقعيدي تأصيلي ضابط للمسألة، بأن كل قانون لا يخالف الشريعة فهو من الشريعة، بما يعني أنه محكوم بإطار الشريعة الكلي.
فهذه القوانين التشريعية في مجملها تدور حول رعاية المقاصد التشريعية الخمسة، وهي: (حفظ الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال)، في جوانبها المختلفة، سواء من ناحية حمايتها في الوجود والنشأة، أو في حمايتها من الهدم أو الإخلال بها.
وما دام الأمر كذلك، فإن هذه القوانين التشريعية تكون غير مخالفة في النظر للإطار الكلي للشريعة الإسلامية، ويكفي في هذا الصدد أن النص الدستوري جعل مبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وتأتي رقابة المحكمة الدستورية العليا كضمانة مهمة لعمل السلطة التشريعية في صياغة التشريعات بما لا يخالف تلك المبادئ.
وبهذا المعنى نرى كيف يحافظ منهج التفكير الأزهري على مؤسسات الدولة والعمل على استقرارها؛ لما في ذلك من تحقيق مقصود الشارع الحكيم في مراعاة مصالح الخلق من خلال إقامة العبادة وتحقيق العمران وتزكية النفس.
حفظ الله مصر من كل مكروه وسوء
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة