لا أعتقد أن هناك مثقفا عربيا الآن لا يدرك حجم المأساة وهي في حقيقتها مأساة أوطانوحكام وشعوب
لقاءات كثيرة وندوات ومهرجانات تجمع الآن المثقفين العرب من كل التيارات والأطياف والمواقف يلتقون جميعًا على أطلال محنة قاسية تعيشها أوطانهم، وجميعهم يتساءلون: كيف وصلنا إلى هذه الحالة من الانكسار والضعف والتخاذل؟ وأين أحلام التغيير وصراعات المواقف والرؤى؟ وأين تاريخ طويل من المعارك ما بين تيارات اختلفت وانقسمت ولعبت بها كل القوى الخارجية والداخلية وجاء الوقت ليكتشف الجميع أنهم خسروا كل شيء؟
لا أعتقد أن هناك مثقفًا عربيًّا الآن لا يدرك حجم المأساة وهي في حقيقتها مأساة أوطان وحكام وشعوب.. إن الأوطان تشردت والحكام فرطوا في الأمانة.. والأقلام باعت والأفكار فقدت وعيها والمواقف أصبحت واضحة في نهاية المزاد؛ حيث خسر من خسر ولا مكان للرابحين.. لا أدري ما هي الأفكار والخواطر التي يمكن أن تدور في عقول كتائب المثقفين العرب، والمصريون منهم بطبيعة الأحوال بل إنهم في الطليعة؛ حيث كانوا دائمًا في صدارة المشهد هزيمة وانكسارًا ودورًا ومسئولية..
من يراجع الآن صورة العالم العربي وكتائب المثقفين وهم يطوفون على أطلال أوطان ثكلى ويستعيدون أمجاد الماضي البعيد وشعوبهم تقاوم الاحتلال البغيض وترفع رايات الاستقلال في كل ركن من بلادهم المنتصرة.. شعوب تتحرر وتفرض إرادتها وتسطر ملحمة من ملاحم الكرامة الإنسانية بحثًا عن الأمن والاستقرار والرخاء.. يتذكر المثقفون العرب الآن رموزهم الراحلة وماذا قدمت من مات شهيدًا ومن سجل أنبل الصفحات في تاريخ وطنه وأمته..
هذه هي الأوطان التي ضحى الشهداء بأرواحهم قتالا وفكرا في سبيلها تحولت إلى مجازر آدمية وأصبح القتل واجبًا شرعيًّا على الجميع.. ماذا يقول المثقف السوري الآن وهو يشاهد عاصمة يرقد فيها رفات صلاح الدين وخالد بن الوليد وقد تحولت إلى أطلال؟.. ماذا يقول وهو الذى قاوم الاحتلال سنوات طويلة وطائرات الغزاة من كل لون وجنس تقتحم سماء حلب وحمص واللاذقية لقتل الأبرياء؟.. ماذا يقول وكل مصائر أمته تدار في جنيف أو واشنطن أو باريس وموسكو وطهران وأنقرة؟.. ماذا يقول والمهاجرون يقتحمون البحار ويموتون غرقًا ومن بقى منهم يواجه الآن صقيع أوطان أخرى تأويه إشفاقا؟.. ترى هل يدور في فكره أو يجول في خاطره صور صراعات فكرية يتيمة فرقت أبناء الوطن الواحد ما بين إخوان وسلفيين وبعثيين ومرتزقة في أزقة وحارات الغرب وهو يشتري الأقلام ويستأجر المواقف؟
ماذا يقول المثقف العراقي الآن وهو يشاهد عاصمة الرشيد وقد استسلمت في أسى أمام محنة الانقسامات بين أبناء الوطن الواحد ما بين السنة والشيعة وما بين العرب والفرس والأكراد والمسيحيين والمسلمين؟.. هل هذه هي بغداد المتنبي والسياب والجواهري ونازك والحيدري وناظم الغزالي؟ وأين نخبة العراق بوحدة فكرها وعقيدتها ومواقفها؟ وكيف تركت العراق يسقط فريسة مؤامرة خبيثة شاركت فيها أطراف كثيرة دولية ومحلية؟ وماذا جنى هؤلاء من معارك البعث والسنة والشيعة وصراعات القوى السياسية بعد أن خسرت كل شيء؟..
والآن تشردت كتائب المثقفين العراقيين من أبناء النخبة المميزة بين بلاد العالم شرقًا وغربًا وسيطرت على الساحة حشود الإرهاب والانقسامات والفتنة.. ماذا بقي من مثقفي العراق وقد تاهت مواكبهم أمام الاحتلال الأمريكي البغيض الذى ضيع على الشعب العراقي فترة من أزهى فترات عزه وتقدمه؟
ماذا يقول المثقفون اليمنيون عن لعنة الانقسامات التي أطاحت باليمن السعيد وهذه الفتنة التي أشعلتها حشود الحوثيين وهي تقتحم مؤسسات الدولة مع حاكم فاسد ضيع شعبه ونهب ثروته وبدد أمواله.. كان الشعب اليمنى يتمتع بفصائل ثقافية واعية وحكيمة ولا أحد يدرى أين هي الآن وقد اختفت تمامًا في دخان المعارك وأطلال الوطن الحزين..
على السياق نفسه، فإن ما يجرى في ليبيا يعكس مأساة شعب عاش طوال تاريخه باحثًا عن الأمن والاستقرار وانقسم الآن على نفسه ما بين مؤمنين وكفار، ولا أحد يعلم من هو الكافر ومن المؤمن، إن القصة في النهاية وبعد كل هذا الصراع وجد الليبيون أنفسهم باختلاف طوائفهم وقبائلهم يعيشون فوق أطلال وطن لم يبق فيه بناء واحد يقاوم ضراوة الإعصار.. كل مدينة في ليبيا تحولت إلى دولة.. وكل دولة فيها أكثر من علم وشعار، والغريب أن يرفع الإرهاب راية الإسلام متحديًا كل ما وصلت إليه البشرية من مظاهر التقدم..
هذا هو حال المثقفين في أربع دول عربية تعيش الآن محنة قاسية، ومن حيث العدد هي من أكبر دول هذه الأمة عددًا وتاريخًا وثقافة ودورًا.. ولعل مثقفي هذه الأمة الآن يراجعون المواقف ويعيدون الحسابات.
على جانب آخر تشهد الدول التي لم تتشرذم بعد مواجهات لا أعتقد أنها تجيء في الوقت المناسب؛ لأن الواجب يحتم علينا أن نلملم ما تكسر وأن نحرص على الإبقاء على ما بقى سليما.. إن النخبة المصرية على سبيل المثال تعيش الآن محنة قاسية بعد تجربة مريرة مع حكم رفع راية الإسلام وضلل الناس بها، وهو يحمل أجندات غامضة لأطراف خارجية..
والغريب أن تجد الإخوان المسلمين -وهم شاءوا أم أبوا يحملون جوازات سفر مصرية، وهم جزء من النخبة بعيدًا عن الانتماء الفكري- يحشدون العالم ضد وطنهم، ويتنقلون بصورة عشوائية مريبة ما بين العواصم يجمعون الأموال ويحرضون الحكومات على أبناء وطنهم..
في أي سياق تدخل هذه السلوكيات هل هي نضال أم عدوان أم تآمر.. وعلى من يتآمر هؤلاء، وهم يطالبون العالم بقطع المعونات والعلاقات مع وطنهم.. وهل يمكن أن يصل الخلاف في المواقف والآراء إلى حد تدمير الشعوب؟.. كيف سمح هؤلاء لأنفسهم أن يدبروا الأعمال الإرهابية وأن يشاركوا في تدمير الخدمات وقتل الأبرياء والعدو في سيناء، وهي جزء عزيز من تراب الوطن؟.. هل وقف السياحة في مصر نشاط سياسي؟ هل تخريب الكهرباء والقطارات والقنابل وهدم البيوت والمحلات عمل نضالي؟ وهل يمكن أن يفرط الإنسان في كل مشاعر الولاء والانتماء ويصبح ضيفًا مأجورًا على موائد الآخرين؟!
إن الإخوان المسلمين جزء من النخبة المصرية، وكانوا شركاء مع الشعب في ثورته في 2011 وحين سرقوها من النخب الأخرى كانت مأساتهم في الحكم التي انتهت بخلعهم في ثورة يونيو.. فهل يستحق الصراع السياسي كل هذه الجرائم والكوارث والنكبات؟
إن ما حدث من الإخوان المسلمين في مصر أكبر خطايا النخبة الدينية التي تعتبر نفسها صوت الله في الأرض.. إن الغريب أيضا أن تشهد الساحة الإعلامية والثقافية هذا التراشق البغيض حول ترشيد الخطاب الديني، الذى يبدأ بفتح ملفات الإدانة وينتهى بالمساس بثوابت الدين تاريخًا ومذهبًا وعقيدة..
إن أغرب ما في هذه الاتهامات أن بعض مدارس الفكر الإسلامي هي التي نشرت الإرهاب.. البعض يرى أنهم الإخوان المسلمون وهم المدرسة الأولى، بينما البعض الآخر يرى أنهم الوهابيون، وتدور المعارك بين الإعلام المصري والإعلام السعودي ليفسد علاقات تاريخية بين شعبين بينهما روابط تاريخية تسبق كل الخلافات.. هذه أيضا بعض ظواهر الخلل في مسيرة المثقفين العرب في مرحلة أقل ما توصف به أنها تمهد لأحداث وكوارث أكبر وأخطر..
حتى الآن ما زال بعض المثقفين العرب يشعلون النيران والمحن لأسباب لا أحد يعرف أهدافها، ما هي الحكمة في هذا التراشق الإعلامي البغيض الذى دار على الساحة في الفترة الأخيرة بين الإعلام المصري والإعلام السعودي وبين الإعلام السوداني والإعلام المصري، بينما تقف القوى الخارجية ترصد الأحداث وتريد المزيد من الغنائم؟..
إن حلقة تليفزيونية واحدة يمكن أن تشعل النار بين شعبين حين تغيب الحكمة وتتراجع المسئولية.. إن مذيعًا واحدًا يمكن أن يطلق رصاصة طائشة على دولة شقيقة وهو لا يدري أنه يهدم ثوابت ويحرك صراعات بغيضة..
هذه هي أزمة المثقفين العرب.. هناك أوطان تحولت إلى أطلال وهربت طيورها.. وهناك أوطان مزقتها لعنة الحروب الأهلية وهاجرت نخبتها المفكرة والمبدعة وتركت أشباح الانقسامات تطارد من بقي من ضحايا الحروب.. وهناك نخب ترى حولها كل هذا وما زالت تصر على إشعال النيران وحشد مواكب الكراهية..
لا شك أن المثقف العربي أيا كان انتماؤه وفكره ومواقفه يقف الآن متسائلا أمام هذه الصور التي وصلت إليها أحوال الأمة ما بين احتلال أجنبي، وحروب أهلية، وانقسامات عقائدية، وعشائر وقبائل تتناحر، وكأن العرب عادوا إلى عصر داحس والغبراء، وكأن سماحة الإسلام لم تهبط عليهم وتجعل منهم خير أمة أخرجت للناس في يوم من الأيام.
نحن أمام حكام فرطوا في كل شيء وباعوا كل شيء وتركوا أوطانهم أطلالاً ودمارًا أو لا أحد يعرف ماذا سيقول التاريخ عن أمة وصلت بها اللعنة إلى هذا الواقع الكئيب حروبًا وقتلاً وخرابًا؟
إن السؤال الآن.. ماذا بقى للمثقف العربي وهو يقف الآن على أطلال وطن؟.. ماذا يقول في غربته بعيدًا عن وطنه وهو لا يملك أن يفعل له شيئا؟.. الآن في شوارع عواصم أوروبا تلتقي كل الفصائل القديمة المتصارعة من فلول المثقفين.. يجلس البعثي مع الإخواني مع التقدمي مع الرجعي مع السلفي مع الملحد ولا أحد منهم يستطيع أن يضع قدميه على تراب وطنه المحتل أو المحطم بين أشلاء الدمار.. ماذا يريد الآن أبناء النخبة في دول لم يأتِ عليها الدور حتى الآن وإن كانت على خريطة المؤامرات؟.. ولماذا هذه الكراهية الغامضة تجاه دول وشعوب وحكام؟ وهل هذا وقت إشعال الفتن أمام أمة تعيش واحدة من أعنف وأسوأ اللحظات في تاريخها؟!..
أشفق كثيرًا على النخب العربية وهي تشاهد رماد أحلامها يتساقط تحت أزيز الطائرات وأصوات الضحايا وحشود الخراب، هذا الفشل الدامي بين أوطان عاد لها الاحتلال بحشود أجنبية وحشود أخرى إرهابية، والتقى الإرهاب مع الاحتلال ليصنعا معًا كارثة العصر، بينما المثقف العربي يقف حزينًا على أطلال أحلام لم تكتمل.
.. ويبقى الشعر
غداً يَهدأُ الشوقُ بينَ الضلوعِ
وترتاحُ فينَا الأمانِي الصغارْ
وتَغدو الربوعُ التي عَانقتنا
رُسوماً من الصَّمتِ.. فوقَ الجدارْ
وبين المرايَا التي كم رسَمنَا
على وَجنتيهَا عُيونَ النَّهارْ
ستجرِى الوجوه ظِلالاً.. ظِلالاً
وينسَابُ حُزناً أنِينُ القطِارْ
وبَينَ الكئوسِ التي أرقتهَا
دمُوعُ الرحيلِ.. وذِكرَى انتظارْ
سيأتِي المسَاءُ حزيناً خَجُولاً
ونمضِى كنجْمينِ ضلا المسَارْ
غداً يسألُ الفجرُ أين البَلابِلُ
أينَ النَّوارسُ.. أين المَحارْ؟
وأينَ النجُومُ التي رافقتنَا
عَلى كلَّ دربٍ.. وفى كُل دَارْ؟
<<<
أنَا نورسٌ لا يُحبُ الرحِيلَ
وَحينَ انتشَى ذابَ شوقاً.. وطارْ
ولكنهُ عَادَ يوماً حزيناً
فقد أسكَرَته الأمَانِي.. فحَارْ
وقدْ ظلَّ يرقصُ حتَّى تلاشَي
ومَا كانَ يدرِى جنُون البحَارْ
أنا نخلةٌ طاردتَها الرياحُ
فكلُّ الشواطِئ حوليِ قِفارْ
أنا قصة منْ زمانٍ جميلٍ
طَواهَا مع الحُزنِ صمتُ السَّتارْ
أنا في كتابكِ أبياتُ شعرٍ
وأيامُ زهو.. وذكرى فَخارْ
أنا في الحدائقِ أشجارُ فلً
وبين المحبينَ أهلٌ.. وجارْ
أنَا في ضميركِ سرُّ الحياةِ
وإن صِرتُ بَعدكِ طيف انكِسارْ
<<<
تَمنيتُ يَوماً زماناً عنيدا
أرَى العمْرَ فيه ِأكاليلَ غَارْ
تَوالتْ عَلينَا السُّنونُ العِجَافُ
وشَردَنَا وَجهُهَا المُستعَارْ
ثِقيلٌ هُوَ الحُلمُ إن صَارَ وَهماً
وضَاقَ بِهِ العُمرُ حَتَّى اسْتجارْ
سأمضِى إلى الحُلم مَهمَا تَوارَي
ومَهمَا طَغَى اليأسُ فِينَا وَجَارْ
فلا تَحزنِي إنْ رأيْتِ الفوَارسَ
خَلفَ الجِيَادِ بَقايَا غُبارْ
ولا تَعجَبي إنْ رأيْتِ الجيَادَ
وقدْ زيّنتْها أكالِيلُ عَارْ
تموتُ الجيادُ إذا مَا اسْتكانتْ
وتغدُو معَ العَجزِ.. دُخّانَ نارْ
<<<
غَداً نلتقِى عِندَ حُلمٍ ٍصغيرٍ
فكمْ خادَعتنَا الأمانِي الكِبَارْ
وقدْ نلتقِى في خَريفٍ حَزينٍ
نحنُّ إليْهِ.. ويحلُو المزارْ
فليسَ لنَا في لِقانَا قرَارٌ
ولَيسَ لنَا في هَوَانا اختيَارْ
فَبعضُ الهَوَى فِيهِ سِرٌ الحياةِ
وبَعضُ الهوَي.. قدْ يَكونُ الدَّمَارْ
<<<
أنَا لنْ اغِيبَ.. وإن غِبتُ يوماً
سَأُشرقُ في ضَحكَاتِ الصغَارْ
سَأرجِعُ حينَ يُطلُّ الرَّبيعُ
ويَصدحُ في الكَونِ صَوتُ النَّهارْ
تَمنيتُ عمْراً.. أحِبكِ فِيهِ
وكَمْ رَاودَ القَلبَ عِشقُ البِحار
ولكنَّ حُبَّكِ دَربٌ طويِلٌ
وأيَّامُ عُمرِي.. ليَالٍ قِصَارْ
إذا صِرْتُ في الافْقِ أطلال نَجْمٍ
فيَكفِى بِأنكِ.. أنْتِ المَدارْ
قصيدة «تمنيت عمرا احبك فيه» سنة 2003
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة