"من هو شارلي؟".. جذور تناقضات النخب الفرنسية
أثار الكتاب منذ صدوره في نسخته الفرنسية، جدالًا كبيرًا حول ما ثار آنذاك من نقاشات حادة وعنيفة عقب أحداث شارلي إبدو وما أعقبها.
عن دار التنوير بالقاهرة، صدرت أخيرًا الترجمة العربية من كتاب (من هو شارلي؟.. سوسيولوجيا أزمة دينية) للكاتب وعالم الاجتماع الفرنسي إيمانويل تود. نقله إلى العربية وقدم له الدكتور أنور مغيث، أستاذ الفلسفة بالجامعات المصرية ومدير المركز القومي للترجمة بالقاهرة.
أثار الكتاب منذ صدوره في نسخته الفرنسية (يوليو 2015) جدالًا كبيرًا حول ما ثار في المجتمع الفرنسي من نقاشات حادة وعنيفة عقب أحداث شارلي إبدو والتظاهرات التي أعقبتها في يناير 2015. لم تكد تمضي بضع ساعات على طرح الكتاب في الأسواق حتى قامت الدنيا ولم تقعد، احتشدت وسائل الإعلام المختلفة ومحطات الإذاعة والتليفزيون بالتنويه إلى صدور الكتاب ومحتواه الذي على ما يبدو قد صدم بتحليلاته قطاعات عريضة من المجتمع الفرنسي، وتطرقت كذلك إلى منهج الكتاب وأفكاره الرئيسية التي اعتمدها في التحليل الذي قدمه لأحداث شارلي إبدو وما أعقبها.
الحدث كان ضخمًا ومفزعًا للدرجة التي دفعت بالنقاشات والسجالات المجتمعية إلى الصدارة خاصة في قضايا المواطنة واندماج المهاجرين ووضعية الأقليات الدينية والعرقية وحدود حرية التعبير والإسلاموفوبيا.. وغيرها من القضايا الإشكالية التي لن يتم حسمها كما هو متوقع في الأفق القريب.
كان لافتًا أنه بمجرد صدور الكتاب، استدعى أن تحتشد له الحكومة الفرنسية، وتقوم بالرد على بعض ما أثاره في مقال نشره رئيس الحكومة آنذاك فالس في جريدة "لوموند" اليومية تحت عنوان "ضد التشاؤم السائد والذين يريدون نسيان 11 يناير".
ضد التيار وعكس الأجواء الصاخبة آنذاك، اتخذ العالم والسوسيولوجي الفرنسي "إيمانويل تود" إطارًا منهجيًا تحليليًا للوقائع والأحداث. توقف عند شعار "كلنا شارلي" الذي تم توظيفه سياسيًا ودعائيًا وأيديولوجيًا على غير ما كان يبدو ظاهريًا. أراد الكتاب، كما يوضح مؤلفه، دعوةَ الرأي العام الفرنسي إلى إعادة النظر فيما يمكن تسميته بالدلالات المسكوت عنها "رسميًا"، وكذلك رد الفعل "العام"، "الجماعي"، في ما بعد أحداث شارلي وخصوصًا التظاهرات التي شهدتها فرنسا في 11 يناير 2015 التي رفعت شعار "أنا شارلي" و"كلنا شارلي".
يكشف تود في كتابه، بتحليل عميق وحفر معرفي مثير، عن تناقض جذري وعميق في بنية النخب السياسية والاجتماعية والثقافية الفرنسية، ففي الوقت الذي تبدو فيه الشعارات المرفوعة تدافع عن حرية الرأي والتعبير ومواجهة التطرف والإرهاب والحفاظ على القيم الديمقراطية الأصيلة كاحترام الأقليات وتعزيز ثقافة المواطنة واحتواء أبناء الثقافات المغايرة بتعضيد ثقافة التعدد والتنوع واحترام الاختلاف، فإنها كانت في الحقيقة تخفي عبر طبقات دفينة ومتراكبة ما يناقض هذا الإعلان.
بالنسبة إلى تود، فإن شعار "أنا شارلي"، وما مثّله من تعبئة سياسية ضد "الإرهاب الإسلامي"، هو الجوهر المسكوت عنه سياسيًا وثقافيًا ونخبويًا في فرنسا، معتبرًا أن طريقة استغلال الهجوم الإرهابي المجرم على صحيفة "شارلي إبدو" ومظاهرات 11 يناير 2015 هي التعبير الاجتماعي الصريح لإصرار الطبقات الميسورة على الهيمنة على الدولة الفرنسية المعاصرة والأقليات. والتي كانت في الماضي ضد الثورة الفرنسية ومبادئها، والحاملة للخلفية التقليدية الكاثوليكية.
ومن هنا فإن الإحساس بالتسامي الإنساني الفرنسي وانحطاط قدر المسلم يولّد تبريرًا يلخصه تود بالقول "لقد رسمنا النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) دفاعًا عن مبدأ الحرية المطلقة لأي شخص في رسم ما يريد. نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفًا تجاه الغير". لذلك تساءل المؤلف في كتابه "بأي حق تنادي الحشود بحرية تشويه النبي محمد في رسوم كاريكاتورية؟ وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير؟".
حسب إيمانويل تود، نقلًا عن الدكتور خالد بايموت في مقاله الضافي عن الكتاب، فإن هذه الفئات بخلفياتها تدافع عن حقها وحدها في الاستهزاء بمعتقدات وقيم الفئات الأقل نفوذا منها، وهو ما يعني سوسيولوجيًا لدى عند تود أن "السخرية من الإسلام تعني محاولة إذلال الأقلية الأضعف في المجتمع"، ومن ثم، فرسم الرسول كاريكاتيريًا، هو جزء من عملية إضعاف طبقة اجتماعية ومحاصرتها قيَميًّا وحركيًّا داخل فرنسا المعاصرة. ويحدث هذا في ظل نوع من التحالف الموضوعي مع العلمانية المتطرفة التي تنظر إلى المسلم بوصفه خطرًا إرهابيًا متحرّكًا لا يجوز أن يتمتع بحقوق المواطَنة.
aXA6IDEzLjU4LjMyLjExNSA= جزيرة ام اند امز