حسن داوود الذي يجمع "أثر" الحوادث وشتات معانيها
حين قرأت رواية حسن داوود "لا طريق إلى الجنة" التي فازت اليوم السبت بـ"جائزة نجيب محفوظ للرواية" تيقنت من مقدرته على تدوين الساكن.
غالبًا ما كنت أردد: ما إن كتب حسن داوود حتى "توسع" حقل الكتابة في لبنان، وفي الأدب العربي المعاصر. حين قرأت روايته "لا طريق إلى الجنة" (الطبعة الأولى، دار الساقي 2013) التي فازت مساء اليوم السبت بـ"جائزة نجيب محفوظ للرواية"، تيقنت من مقدرة حسن داوود على جعل الرتيب فائرًا بديناميكية المعنى، وبقدرته على تدوين الساكن، وإضفاء القوة على الهدوء والسكينة، هو كاتب من النوع الذي يلتقط المكتوم لا الظاهر أو المتحرك، وإذا كان الروائيون يلاحقون الزمن بالأيام، فهو من النوع الذي يرصد الثواني، ككاميرا فائقة البطء، يكتب في "لا طريق إلى الجنة": "لا ينبغي له أن يتردد، أو يؤجل، فذلك سيبقيه حيث هو، كما هو، ماكثًا في غرفته، لا شيء يفعله إلا انتظاره للشمس يتقدم خطها على البلاط". يستطيع داوود أن يستطرد ملاحقًا خط الشمس، أو أن يتابع مكوث بطله، عبارة إثر عبارة، داخل هذا الصمت الوجودي، جاذبًا قارئه إلى خدر الجمال اللغوي، وجمال البطء والانتظار المتوتر.
منذ نصوصه الأولى، بدا الاختلاف في الموضوعات والأساليب ممكنًا ومتحققًا في اقتراحاته وممارسته اللغوية، وهذا نادرًا ما يحققه أي كاتب، التوسع ذاك أصاب فينا أيضًا ذائقة القراءة، معه ومع آخرين من أمثال: نجيب محفوظ، أو فؤاد كنعان أو وليم فوكنر أو ياسوناري كواباتا...
على نحو مفاجئ تقريباً، أتت رواياته كوثبة وعيّ قطعت مع مراهقة روائية سائدة بكل طيشها وهفواتها (في لبنان على الأقل). كان ثمة انتقال أكيد من القص والحكي إلى "الكتابة"، بوصفها اشتغال في السرد والنثر، حيث ما هو واقعي أو غير واقعي، وما هو منظور أو متخيل، لا يتحدد إلا وفق علاقات منطقية جمالية بين تعبيرات معينة في اللغة أو في مشكلات اللغة، علاقات ابتكرها أسلوب داوود الموارب والإيحائي، الذي لشدة وضوحه ودقته نظنه باستمرار "وصفيًا" فيما هو متجذر بملاحقة اللامرئي.
فكرة حسن داوود عن الرواية هي إعادة اعتبار لـ"الكتابة"، ولتلك المتعة القديمة فيها، كما يجب أن يختبرها الكاتب والقارئ معًا، ولهذا السبب التقليدي بالذات، فهو منذ مطلع الثمانينات بدا وكأنه يعمل على إعادة وصل مع ذاكرة الكتابة (التراثية والحداثية بلا تمييز) وانتباه أكبر لشرط الرواية المعاصرة: تيه الحكاية واستحالة الحبكة، وبمعنى آخر، كان يبحث عن طريقة لوضع حد لهذه الخفة التي كانت تسود الكتابة الروائية.
منذ "تحت شرفة أنجي" و"بناية ماتيلد" و"نزهة الملاك" و"أيام زائدة"، استقام الفارق بين شعرية النثر القصصي والروائي... والشاعرية الأدبية البلهاء التي كانت تستحوذ على أغلب الفن الروائي السائد، فارق في "الإنشاء" وفي المعنى، لكن الأهم أن كتابة حسن داوود منحت الرواية ما قد نسميه "فن المراوغة": العبارة التي تتلاعب بمعناها، وتندفع مخاتلة أعمق من سطحها ولفظها. هذه السمة القائمة على الظن والقلق والحيرة والضيق، جعلتنا باستمرار إزاء رواية داوود متمهلين لا مسرعين، أي اننا "نقرأ" أكثر مما نجري نظرة المطالعة على الأسطر.
لا نعرف تمامًا كيف نفسر أيضًا شعورنا بأننا ما أن نبدأ بقراءة نص لداوود، حتى نظن أن ثمة لغة تتدفق بهدوء وصمت، في حين أن الضجيج والصخب والأصوات هي التي تهمين عادة على أكثر ما يقع بين أيدينا من كتب، مع أن روايات حسن هي حكايات وسِيَر محتشدة ومضطربة ومثقلة بالعنف المكبوت، ربما ما نسميه الصمت هنا هو الأناقة في القول، والرهافة في التعبير.
من يعرف داوود، يعرف كيف أنه يكتب بخط شديد الضآلة، ويجعل الكلمات متلاصقة تقريبًا، ومن غير مسافة بين الأسطر، هكذا، يمكنه أن يكتب ألف كلمة في صفحة واحدة، كنمنمة غامضة، ما يدلنا على طريقته في استدعاء باطني للمفردات، مدققًا بها، غارقًا في "حياكة" العبارات والجمل بإبرة الحبر، وعالم رواياته هو أيضًا عالم مسكون بالتفاصيل النفسية، بشخصيات لا تتوقف عن تأمل ذاتها، فيكتب مثلاً في "لا طريق إلى الجنة": "من تلك المسافة القليلة، والتي كانت تصير أقل كلما دنوت منها لأكلمها أو انعطفت هي إليّ لتكلمني، كنت أشعر كم أنها قريبة من ملمسي، إنه شعور حقيقي ذلك الذي يحسّه الرجل حين تكون يد المرأة قريبة هكذا من يده أو من نظره" (ص 170).
هذه الرواية بالتحديد، وإن كانت تسرد بعضًا من سيرة رجل دين ريفي من جنوب لبنان، إلا أنها وببطء يحاكي البطء الزمني للتحول الذي أصاب ذاك المجتمع الريفي، وبات اليوم معقلاً لأيديولوجيا أصولية دينية، أيديولوجيا أطاحت بعوالم ذاك الرجل وعاداته ومكانته، لا يقول داوود كل هذا بحكاية صاخبة لسير شخصيات كثيرة، بل يكتفي ببطله الصموت، المرتبك بشهواته..
فضيلة كتابة حسن داوود الكبرى هي ملابستها للزمن، هذه المعضلة الوجودية للكائن. المعضلة التي تصير السؤال الروائي الأشد إلحاحًا، وربما تكون علة كل كتابات حسن داوود، وتحت وطأة هذا السؤال تتفتح رواياته على مهل وببطء وبجريان هادئ ومتصل، حيث كل عبارة هي محاولة عنيدة للقبض لا على اللحظة الثابتة لكن على مسار تحولها الذي بالكاد يمكن ملاحظته، وعندما نقول "الزمن" هنا، نعني به معايشة الكائن لذاته ولمكانه، وهذا ما يستدعي في روايات داوود ذاك السرد المضني القائم على الظن لا اليقين، على الحيرة والقلق والالتباس، في الوصف المتأني للأشياء والأمكنة وفي جمع "أثر" الحوادث وشتات معانيها، فلا "أفكار" حاسمة هنا، لكن احتمالات شتى. وهذه هي بالطبع غواية الفن الروائي وسر قوته.
aXA6IDMuMTUuMjAzLjI0MiA= جزيرة ام اند امز