المدن لا تخذل أحداً، والأرض لا تُفرّط في أحد، والطرقات لا تُبدل مساراتها، والجهات لا تُغيّر مواقعها
المدن لا تخذل أحداً، والأرض لا تُفرّط في أحد، والطرقات لا تُبدل مساراتها، والجهات لا تُغيّر مواقعها، والرياح التي تهب من الشمال ستهب منه دوماً، والشرق الذي يبزغ منه الفجر سيبقى أبداً موطن الصباحات، وحدهم البشر من يتغيّرون ويتلوّنون ويخونون ويُفرّطون ثم يتباكون على الظروف والأقدار!
تمر خُطاي بطرقات مدن الأندلس، أكاد أسمع أصوات العرب بها وأشعر بنبضاتهم في جدران طليطلة وما تبقى من آثارها وسَلِمَ من تخريب الحقد الصليبي، وهناك يقف جامع قرطبة شاهداً على مجدٍ تليدٍ أَفَل، وهنا يكتنف الصمت الحزين جنبات قصر الحمراء بغرناطة على وجودٍ نافَ على الثمانية قرون وقدم حينها لأوروبا أعظم حضارة شيدت على تلك الأرض، ثم ذهب كل ذلك أدراج الرياح وسقطت الحضارة تحت ضربات الهمج ومؤامرات الخونة وانفرط عقد الأندلس تباعاً بتفريط أهلها بها ليخرج أبو عبدالله الصغير بعد تسليم غرناطة إلى المغرب ويفتك جنود قشتالة وأراغون بالعرب المسلمين هناك ويُقتل منهم خلال محاكم التفتيش المروّعة أكثر من نصف مليون إنسان أغلبهم حرقاً في الميادين العامة وهم أحياء، وتحال كل المساجد إلى كنائس وتحرق كل كتب الحضارة الأندلسية في طمسٍ بربري مرعب لهوية البلد!
سقطت الأندلس عندما سقطت طليطلة كبرى مدنها عام 478هـ الموافق 1085م بعد أن تعرضت لهجمات لا تحصى من فرناندو الأول ثم ابنه ألفونسو السادس بالإضافة إلى استنزافها بسبب غارات الخونة من ملوك الطوائف المجاورين لها، كما يقول نابليون بونابرت في وقتٍ متأخر: «إذا رأيت عدوّك يرتكب خطأً فإيّاك أن تُقاطعه»، تركوهم بل وأعانوهم بالجند والسلاح لعلمهم أن سقوط طليطلة والتي تعتبر واسطة العقد لبلاد الأندلس يعني سقوط مؤكد لقرطبة وغرناطة وجيان واشبيلية وملقا من بعدها، تماماً كما يفعل الغرب الآن سِرّاً من دعم لإيران ولجماعات الإرهاب وأحزاب التخريب!
سقطت الأندلس عندما تفرّقت كلمتها وعاث فيها ملوك الطوائف فساداً، وتناحروا فيما بينهم، بل وصل الأمر أن استعانوا بالإفرنج لقتال اخوانهم وتذكر كتب التاريخ أن المعتمد بن عباد أمير اشبيلية تحالف مع ألفونسو ملك قشتالة ليساعده في احتلال طليطلة أعظم مدن الأندلس وأمده بالجند والعتاد مقابل أن لا يهاجم أراضيه من باب المثل الشعبي القائل «إذا سَلِمْت أنا وناقتي ما عليّ من رفاقتي»، وعندما سقطت طليطلة بعد حصار مميت لسبع سنوات ثم استباحتها وقتل أهلها وسبي نسائها واسترقاق أطفالها أرسل حسام الدين بن رزين أمير مدينة شنتمرية الهدايا النفيسة لألفونسو لتهنئته باحتلال طليطلة، نعم يا سادة تهنئته عدو على قتل وسبي اخوانه وأخواته واحتلال بلادهم، فجازاه ألفونسو بإهدائه «قرداً» احتقاراً له، لكنّ ابن رزين عدّها مفخرة يتباهى بها، وحقاً كم هو جدير أن يفتخر بما يستحق!
ملوك الطوائف بيننا من جديد، أولهم سفّاح الشام الذي استعان بكل مرتزقة الدنيا لقتل شعبه من أجل أن يُحافظ على كرسيه حتى لو لم يبق أحداً يحكمه أو شيئاً يستحق العيش لأجله بعد دمار كل شيء، والآتون على دبابات الغُزاة لنهب العراق ثم فتح جميع المعابر للمجوس ليصفّوا حساباتهم مع العراق العظيم الذي كان سيدّهم وكاسر أنوفهم طيلة تاريخه، والحرباء غدّار اليمن الذي لم يترك أفعى إلا وأتى بها ليستعيد عرشه الذي رماه عنه الشعب، فتمالأ مع كل حثالات البشر وشياطينهم من مجوس وقاعدة وداعش وحوثيين، وحزب الإخوان الذي تلوّن بكل ألوان الدنيا ليصل إلى أي عرش حتى لو كان على حساب لُحمة الأوطان ومروّجاً لتلك الأحجية بأنّ إعلان الخلافة التي يدندن بها دهاقنته ستعيدنا «فجأة» لمقدمة العالم، لكنهم لا يقولون كيف سيصنعون الطائرات والسيارات والبواخر وأدوات التقنية المتقدمة في تلك الـ«فجأة» التي ستجعلنا في صدارة الحضارة، وعوضاً عن الإجابة على هذا السؤال البديهي يتباكون على الإسلام وكأننا نطوف بهبل واللات والعزى!
إن جزيرة العرب يراد لها أن تكون طليطلة الجديدة، فالخونة مُحدقون بها من كل مكان، والمتآمرون عليها لم يتركوا حثالة إلا واستعانوا بها من أجل إسقاطها، ولولا عناية الله تعالى ثم وقفة الرجال الأحرار من ولاة الأمر في دول الخليج ومسارعتهم في التصدي لمخططات أمراء الطوائف الجدد والواقفين خلفهم لدعمهم وإلا لكانت قد تكررت مأساة طليطلة، ومن عجيب الاتفاق أنّه لم تحل بالمسلمين مصيبة إلا وكان للمجوس ومذهبهم وأتباعه نصيبٌ كبير، فقديماً تحالفت الدولة العبيدية في شمال افريقيا مع أحد الخونة ويُدعى ابن حفصون والذي اعتنق النصرانية بعدها وأرسلوا له الدُعاة لتأسيس أحزاب سريّة لهم لضرب المجتمع الأندلسي من الداخل وتستروا بالطرق الصوفية لكي يخدعوا العامة ويتقرّبوا إليهم بادّعاء الصلاح والطيبة لكن انتبه لهم الأمير العظيم عبدالرحمن الناصر وقضى عليهم قبل أن يقوى أمرهم، تماماً كما نرى حالياً في اليمن وفعل ايران مع الحوثيين!
الدول تسقط عندما يُفرِّط فيها أهلها، وتذهب شوكتها عندما يأكل سوس الشقاق والفُرقة والاختلاف داخلها، فطيلة تاريخ البشرية لم يجرؤ عدو خارجي مهما كَبُر حجمه وعَظُمَت قوّته على مهاجمة بلدٍ متماسك الداخل متمسك بقيادته مهما صغر، أما البلد المتشظّي والذي تتناهبه الطائفية والفُرقة ودجل الأحزاب التحررية - والتي لا تعرف من التحرر إلا أن تصل للسلطة لتسرق دون رقيب – فهي هدف الأعداء الأول وفريستهم الأمثل، هكذا حدث بالأمس للعباسيين أمام المغول، والأندلس أمام الصليبيين، والعراق حالياً أمام المجوس والأميركان، ولنعلم أنّ كلاً منّا على ثغرٍ لبلده، فلا نجعله طليطلة الجديدة!
نقلًا عن صحيفة اتجاهات
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة