نحن أمة كثيرة الشكوي، لا نكف عن الكلام عن ضرورة الإصلاح. ولا شيء يحدث. يستمر ما نشكو منه دون إصلاح
نحن أمة كثيرة الشكوي، لا نكف عن الكلام عن ضرورة الإصلاح. ولا شيء يحدث. يستمر ما نشكو منه دون إصلاح، ونستمر نحن فى الشكوي. يحدث هذا فى الاقتصاد، وفى السياسة، وفى التعليم، وفى الثقافة، وفيما يسمى بالخطاب أو الفكر الدينى وضرورة تجديده.. الخ. بل ونتكلم أحيانا عن ضرورة إصلاح «أخلاق المصريين»، وأحيانا عن «إعادة بناء الشخصية المصرية»، أو أشياء مبهمة من هذا القبيل، ولا يحدث تقدم بالطبع، لا فى الأخلاق ولا فى الشخصية المصرية.
لو قام أحدنا بتصفح جرائدنا فى الأعوام الخمسين الماضية، لوجد نفس المطالبات بالإصلاح، فى مختلف الميادين، وأحيانا بنفس العبارات والألفاظ التى نستخدمها اليوم. كما سيجد وعودا مختلفة بأن الإصلاح سيتم خلال مائة يوم، أو وعودا «بصحوة كبري»،، أو «حضارة حديثة» دون أن يتحقق شيء من ذلك.
أثناء ذلك تمر الأيام والسنون، وتحرز أمم أخرى تقدما، كبيرا أو صغيرا، فيصبح هذا أيضا موضوعا للشكوي: كيف تأخر ترتيبنا إلى هذه الدرجة بين الأمم التى كانت فى مثل حالتنا أو أسوأ؟ لابد أن نفعل مثلهما ونلحق بهما. ولكن المهمة تزداد صعوبة مع مرور الوقت، لأن التدهور يجلب مزيدا من التدهور.
هناك عدة أوجه للتعجب من هذه الحالة. من بينها ما يخطر لى أحيانا من أن كثيرا من هذه المشكلات لا تبدو لى عصية على الحل لهذه الدرجة. فى كل من القارات الثلاث سيئة الحظ (إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) أمثلة لنجاح باهر فى مختلف مجالات الحياة، تم إنجازه فى فترة قصيرة من الزمن: الصين فى أواخر السبعينيات من القرن العشرين، وكوريا الجنوبية فى الستينيات، وماليزيا فى الثمانينيات، وجنوب إفريقيا تحت حكم مانديلا، والبرازيل تحت حكم لولا دى سيلفا. بل حدث فى مصر نفسها تقدم مبهر فى مختلف نواحى الحياة فى الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، ثم فى السبعينيات من نفس القرن ثم فى العشرينيات من القرن العشرين، ثم فى الخمسينيات من القرن نفسه، فى كل هذه الأمثلة وغيرها لا يبدو أن الأمر كان يحتاج إلى معجزة، بل تمت الإنجازات بسرعة، وارتفعت الآمال بسببها بسرعة أيضا، وبدأت تؤتى ثمارها فورا.
وببعض التأمل يتبين أن الإصلاح فى أى ميدان لا يحتاج فى الحقيقة إلى معجزة. الاخصائيون، سواء فى الاقتصاد أو السياسة أو التعليم أو الفكر الديني، كثيرا ما يتكلمون وكأن المشكلة عويصة ومعقدة للغاية، بينما نرى فى الواقع أنه متى بدأ اتخاذ خطوة واحدة صحيحة تتابعت الخطوات الصحيحة الأخرى بسرعة،. واقترن هذا بشيوع التفاؤل وصعود الآمال مما يسهل اتخاذ الخطوات التالية. سأضرب ثلاثة أمثلة بسيطة، أحدها فى ميدان التعليم، والثانى عن تجديد الفكر الدينى، والثالث فى الإصلاح الاقتصادي.
عندما أعود بذاكرتى للكتب التى كانت مقررة علينا فى المدارس فى صبانا، أتذكر كم كانت جميلة وراقية بالمقارنة بما يقرأه تلاميذنا اليوم، وكم كانت تلتزم بقواعد الملاءمة لأعمار التلاميذ، عقليا ونفسيا، وكيف كان يقوم بمراجعتها كبار المعلمين أو رجال الأدب. أقول لنفسى متحسرا: هل نحتاج فى الحقيقة إلى أكثر كثيرا من إعادة تقرير نفس هذه الكتب الرائعة على الأجيال الجديدة من التلاميذ؟ وما الذى يمنعنا من ذلك؟ انى لا أقصد طبعا أن مشكلة التعليم بهذه البساطة، وأنها تحل بمجرد تغيير المقررات الدراسية. فهناك أيضا مشكلة رواتب المدرسين، ودرجة تأهلهم للتدريس، وأحجام الفصول، والأدوات المدرسية المتاحة.. الخ، كما انى لا أقصد أن الكتب القديمة لا تحتاج إلى أى تعديل. ولكنى قصدت أن أقول إن هناك حلولا لبعض المشكلات، أسهل بكثير مما نتصور. ولكننا لسبب ما نتغاضى عنها.
وفيما يتعلق بتجديد الفكر الديني، نحن نتصور أن الفكر الدينى يمكن أن يتغير بمجرد الموعظة، أو بتكرار القول إن الاسلام الحقيقى يقول كذا، ولا يقول كذا. إن التفكير الدينى نشاط اجتماعى له جانبه الفكري، ولكن له أيضا جانبه الاجتماعى المهم، ومن الممكن جدا أن يبدأ التفكير الدينى فى التحسن والاستقامة بمجرد تحسن الظروف الاجتماعية والاقتصادية، ثم يأتى الفكر المستنير فيزيد الأمر استقامة. يذكرنى هذا بالحادث الذى وقع فى مصر منذ عامين. مدّرسة منتقبة كانت تدرس لتلميذات صغيرات فى السابعة أو الثامنة من العمر فى احدى مدارس الصعيد، ونبهت على تلميذتين لم تكونا ترتديان الحجاب بضرورة ارتدائه، فلما جاءتا فى اليوم التالى دون حجاب أحضرت المدّرسة مقصا وقامت بقص شعر كلتا التلميذتين. هل هذه المدرسة تحتاج إلى من «يجدد لها دينها»، ويشرح لها الاسلام على حقيقته، أم أن لديها فى الحقيقة مشكلة نفسية أو عصبية تعود إلى مشكلة خاصة، وأن المطلوب فقط هو أن نحل لها مشكلتها الاقتصادية أو الاجتماعية أو أن نقوم بفصلها فورا؟
شيء مماثل يمكن أن يقال عن الإصلاح الاقتصادي. كلنا مستعد للاعتراف بأن الإصلاح الاقتصادى يحتاج إلى خطة. فلماذا تتكرر عندنا الخطط، وننتقل من خطة لأخرى دون أن يحدث الإصلاح الاقتصادي؟ لا أظن أن وضع الخطة المطلوبة أمر صعب لهذه الدرجة من الناحية الفنية. ولدينا مئات ممن درسوا التخطيط الاقتصادى فى أفضل الجامعات فى العالم. فلماذا يا ترى لا نحظى بالخطة المطلوبة إلا نادرا؟
هذا هو ما قصدته فى عنوان المقال «بالسهل الممتنع» هذا التعبير الجميل نستخدمه عادة لوصف أسلوب كاتب كبير يتميز بالوضوح والعذوبة، فيسهل فهمه ويكون له وقع طيب فى النفس، ولكن يكاد يكون من المستحيل تقليده والإتيان بمثله إلا على صاحب هذا الاسلوب نفسه. خطر لى أن الإصلاح المطلوب فى مصر، فى مختلف الميادين هو أيضا من قبيل «السهل الممتنع»، يبدو واضحا وسهلا، ولكن، لأسباب غامضة، يبدو أيضا عصيا علينا وكأنه مستحيل التحقيق.
ما هو التفسير الحقيقى لهذه المعضلة؟ لماذا نبدو وكأن من المحتم علينا أن نستمر فى الشكوي، والاصرار على ضرورة الإصلاح، دون أن يتم أى إصلاح؟ ما هو السبب الحقيقى لكون الإصلاح لدينا «ممتنعا» لهذه الدرجة؟ سأحاول استعراض بعض الإجابات المحتملة فى المقال التالي.
نقلًا عن صحيفة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة