أزيحوا صدّام حسين وأقيموا الديموقراطيّة في بلاد ما بين النهرين، يتحوّل العراق نموذجاً جاذباً لشعوب المنطقة التي تعثر
في 2003 كان المحافظون الجدد الأميركيّون أصحاب الرؤيا العربيّة انطلاقاً من العراق. دعوتهم النبويّة كان مفادها التالي: أزيحوا صدّام حسين وأقيموا الديموقراطيّة في بلاد ما بين النهرين، يتحوّل العراق نموذجاً جاذباً لشعوب المنطقة التي تعثر، بعد طول انتظار، على خلاصها.
تلك الدعوة الرساليّة حفّزتها أسباب وعوامل كثيرة ومتفاوتة. إلاّ أنّ أحدها كان بالتأكيد البحث عن الانسجام الذي يبحث عنه عادةً المؤمنون. ذاك أنّ الضجر إنّما بلغ أوجه من الشذوذ العالميّ المنسوب إلى العرب عن وجهة كانت قد بدأت تشقّ طريقها الكونيّ العريض، وجهة الديموقراطيّة. وكان من السهل تبيان ذلك بتعداد السنوات، ممّا يحبّه الألفانيّون: فصدّام وحزبه يحكمان العراق منذ 1968، وحافظ الأسد وحزبه، ثمّ ابنه، يحكمون سوريّة منذ 1963، ومعمّر القذّافي يحكم ليبيا منذ 1969، و «شرعيّة يوليو» معمول بها في مصر منذ 1952...
لكنّ الضجر من وضع مضجر والحماسة للانسجام والتناسق لا يكفيان لإحلال الرؤيا محلّ الرؤية، والإيديولوجيا محلّ السوسيولوجيا، والخلاص المطلق محلّ الواقع باحتمالاته المحدودة. هكذا انفجر العراق وتكشّف أنّ ضيق ذات اليد لا يتيح طلب العلى على النحو الذي تراءى لطالبيه.
المحافظون الجدد كانوا ثوريّين من الخارج أكثر ممّا كانوا محافظين. إلاّ أنّ ثوريّاً من الداخل كان قد سبقهم ببضعة عقود في التلويح باجتراح المعجزات. فمع جمال عبد الناصر بدت الوحدة العربيّة وتحرير فلسطين ودولة العدالة والمساواة على مرمى حجر. وكان ما كان ممّا انتهى بهزيمة 1967 المطنطنة التي اضطلعت بأحد الأدوار في صعود المستبدّين المذكورين أعلاه، وبدور ضخم في نشأة الإسلام الراديكاليّ.
وكان النفط، بدوره، مُنشّطاً للرؤيا، فبدا زحفُ الملايين إلى الخليج بحثاً عن غد يقيم في النعيم كمثل ملحمة توراتيّة. وفي حضن المشاريع العملاقة والمدن السابحة في الضوء، انفجرت العظمة عُظاماً. فهنا يولد «الأوّل» من كلّ شيء، ويبقى هكذا لا تطويه النهايات. لكنّ الأرقام والوقائع وأوضاع السلع والتبادل، ممّا لا تعيره العظمة انتباهها، كانت تدفع في اتّجاهات أخرى.
وأيضاً في اتّجاهات أخرى كان واقع الطوائف والمناطق والإثنيّات يدفع الثورات العربيّة، آخر تعابير الرؤيا التي لفحت منطقتنا. فطلب الحقّ والعدالة، بعد طول كبت وطول انتظار، جعل الأعناق المشرئبّة إلى السماء لا ترى الأرض، حارماً بعض الأفكار والمشاعر تواضعها، ومُضعفاً الاستعداد للنقد والمراجعة وتقاسم الحقائق مع السوى.
وفي «داعش» تجسّدت ذروة الرؤيا التي صار لها جيشها المقاتل ودولتها. وإذ تراءى قيام الساعة على قاب قوسين أو أدنى، حلّ الخراب على عاصمة «الخلافة»، الموصل، حلوله على شقيقتها الحلبيّة إلى الغرب منها. ومن مدننا وحواضرنا هامت على وجوهها قوافل المعذّبين والبؤساء التي أُتخمت بشتّى أنواع الرؤيا، باحثة عن كسرة خبز تقايض بها تلك الفراديس المزعومة.
وأمام هذا الانكشاف المريع قد يتكاثر بيننا مكتشفو الله أو العائدون إلى الطبيعة أو المستسلمون لأسرار وخبايا مقدّسة. لكنّ ما يفوق هذا البؤس بؤساً أن يقلّ عدد المتسائلين: لماذا تزدحم منطقتنا بمشاريع الرؤيا، بدل الرؤية، فيما الأبواب موصدة والانهيار متلاحق ومديد؟
وحده «حزب الله» مدّ يده إلى السؤال، ولم يتردّد في تقديم جواب خارق: إنّه... «زمن الانتصارات»، وكفى الله المؤمنين ...
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة