أمور كثيرة تستعصي على الفهم أخذت مكانها في الواقع العربي، منذ تغوّلت التنظيمات الإرهابية، وتمكنت من فرض سطوتها على عقول بعض الشباب
أمور كثيرة تستعصي على الفهم أخذت مكانها في الواقع العربي، منذ تغوّلت التنظيمات الإرهابية، وتمكنت من فرض سطوتها على عقول بعض الشباب اليافعين. ما الذي يدفع شاباً يافعاً لطعن والده ووالدته؟ وما الذي يدفع آخر إلى قتل مدرّسه، وشخصاً ثالثاً يقتل صديقه، وجميعهم مقتنع أنه يسير على الطريق القويم، وأنه يعيد لرسالة الإسلام اعتبارها، بعدما لحقها من ظلم. هل يعقل أن يصل التزييف، وغسل الأدمغة إلى حد تجريد الفرد من عواطفه ومشاعره، وماذا يتبقى من منظومة القيم والمبادئ إن هي جردت الفرد عن بيئته ومحيطه ومحبيه؟
في زحمة السؤال، ورحلة البحث، وقعت يدي على كتاب سيكولوجية الجماهير، وهو كتاب قديم ألفه غوستاف لوبون المولود عام ١٨٤١. وقد اعتبر هذا الكتاب إضافة رئيسية، فيما بات يعرف في علم النفس بعلم الجماهير.
ورغم أن موضوع الكتاب يركز كثيراً على دور الشخصيات القيادية، المتمتعة بجاذبية عالية في تجييش الجماهير، والتأثير فيها وتوجيه حركتها، لكنه يتناول أيضاً تأثير الأديان والمذاهب السياسية، في الجمهور. ولا يتردد الكاتب في الإفصاح عن أن الأيديولوجية الدينية، حين تتحول إلى دوغما، تكون قادرة على تهييج الجماهير، وتجييشها لكي تنخرط في الحركات الكبرى.
وفي هذا السياق، يشير لوبون إلى الحروب الصليبية، والدعاية العباسية التي قلبت الدولة الأموية، كأمثلة على ما تحدثه عملية تحفيز الجماهير وتسعير مشاعرها، في صناعة التاريخ.
لقد حلت السياسة مكان الدين، لكن جوهر التسعير بقي على ما هو عليه. وأضحت الأحزاب السياسية والحركات العمالية، هي التي تعبئ الجماهير وتجعلها تنزل إلى الشارع. وبدلاً من الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت، حلت الحروب بين الأحزاب الاشتراكية والأحزاب الليبرالية. ومثلت هذه الظواهر تراجعاً عن الحضارة، وعودة إلى مرحلة البربرية والهمجية.
درس لوبون ظاهرة الجماهير، ليس من زاوية علم الاقتصاد أو التاريخ، بل في علم النفس. وتوصل إلى أن هناك «روحاً» للجماهير، مكونة من الانفعالات البدائية، ومكرسة بواسطة العقائد الإيمانية القوية، وهي أبعد ما تكون عن التفكير العقلاني المنطقي. إن روح الفرد، شبيهة بالخضوع لتحريضات المنوم المغناطيسي، تخضع لإيعازات وتحريضات أحد المحركين، أو القادة الذين يعرفون كيف يفرضون إرادتهم عليها.
إن الفرد يقدم على أشياء استثنائية، ما كان ليقدم عليها، لو كان في حالته الفردية المتعقلة. إن ذلك في حقيقته خضوع للصور الموجبة والشعارات البراقة التي يستخدمها الزعيم، مستعيضاً بها عن الأفكار المنطقية والواقعية، التي لا تمكنه من تحقيق السيطرة على الجماهير وامتلاك روحها.
وهكذا فإن الميزة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة، وعاطفة مشتركة، تقضي على التمايزات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. ولوبون يشبه ذلك بالمركب الكيماوي الناتج عن صهر عناصر عدة مختلفة، تذوب وتفقد خصائصها الأولى، نتيجة التفاعل، وبسب من المركب الجديد.
ويرى لوبون أن الجماهير لعبت أدواراً مهمة في صناعة التاريخ، بفعل دورها اللاواعي. إن الانقلابات الكبرى في التاريخ، هي نتاج التغير العميق الذي يصيب أفكار الشعوب. وإن المتغير الحقيقي في التاريخ هو التغير الذي يؤثر في عواطف البشر، بشكل جمعي.
وعلى هذا الأساس، فإن وعي التغير في مسار التاريخ، ينبغي ألا يتجه نحو الفرد، بل نحو الكتل الكبرى، من الجمهور. إن تكتل ما من البشر، يمتلك خصائص مختلفة جداً عن خصائص كل فرد. فشخصية الفرد الواعية تنطمس في شخصية الجمهور.
إن الظواهر اللاواعية، تلعب دوراً حاسماً في طريقة اشتغال الذهن. والحياة الواعية، للروح البشرية، لا تشكل إلا نزراً يسيراً من الحياة اللاواعية. والكفاءة العقلية للبشر تمحى وتذوب في الروح الجماعية، فلا يبقى مكان للمختلف أمام المؤتلف. والائتلاف بهذا المعنى هو نزول عن سقف الحضارة، وعودة للبدائية.
والسؤال بعد كل هذا هو: هل تسعفنا هذه القراءة، في تحديد أسباب تغول ظاهرة الإرهاب في مجتمعنا العربي، في السنوات الأخيرة؟ الجواب، نعم، ولا، في الوقت نفسه. إن التفسير الذي قدمه لوبون فتح أعيننا على جوانب خافية من التحليل، ولكنه لم يقدم قراءة شافية لأسباب استفحال هذه الظاهرة، وفي هذا الوقت بالذات.
إن علم النفس، مهم جداً في دراسة المجتمعات الإنسانية، ولكنه يبقى عاجزاً عن تقديم تفسير واقعي وحقيقي للظواهر الاجتماعية إن لم يتم ربطه بالاقتصاد والسوسيولوجيا والسياسة والتاريخ. على أن ذلك لا ينفي إسهاماته في تقديم شيء من التفسير عن حالة التداعيات والانهيارات الراهنة في مجتمعنا العربي.
ويبقى موضوع استفحال ظاهرة الإرهاب في مجتمعنا العربي بحاجة إلى المزيد من التحليل والتأصيل.
نقلًا عن صحيفة الخليج
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة