ربما يبدو الحديث عن تطوير التعليم العربي نوعاً من الترف الفكري في ظل ما يحيط بالعالم العربي من أزمات وصراعات
ربما يبدو الحديث عن تطوير التعليم العربي نوعاً من الترف الفكري في ظل ما يحيط بالعالم العربي من أزمات وصراعات، لكن الحقيقة التي لا تخفى على كثيرين أن التعليم كان في موقع القلب من الأزمة العربية الشاملة التي وصلت خلال السنوات الماضية إلى واحدة من مراحل تعقدها، وأفرزت ما نعاينه الآن من تداعيات ثقيلة الوطأة على كل بلدان العالم العربي.
لم يعد خافياً أن مشاكل مثل الفشل التنموي والإخفاق الاقتصادي والاحتقان المجتمعي ونمو تيارات التشدد والتطرف في العالم العربي مرتبطة بأسباب وثيقة بتراجع مستوى التعليم وإهماله وتدني الإنفاق عليه وتراجع الاهتمام به على أجندة كثير من الحكومات العربية في نهايات القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. ولم يحدث ذلك على حين غرة، بل إن أصواتاً عالية في الداخل والخارج كانت تطلق التحذير تلو التحذير، وتشخص مواقع الخلل وتحدد طرق العلاج من دون أن تجد آذاناً صاغية في معظم البلدان العربية. ومن يرجع إلى تقارير الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي ومنظمات مثل «يونيسكو» أو «يونيسيف» أو حتى جامعة الدول العربية والأجهزة التابعة لها خلال الأعوام العشرين الماضية، سيجد رصداً عميقاً للواقع التعليمي العربي وعلله، متضمناً إحصاءات دقيقة ودراسات حال واضحة الدلالة تدق أجراس الإنذار من دون أن تجد من يأخذها على محمل الجد.
يمكن أن نرى نموذجاً واضحاً لأجراس الإنذار هذه في تقرير التنمية الإنسانية العربية الذي صدر في العام 2002، ففي الفصل الرابع الذي خُصص للتعليم، يرصد التقرير نقاط ضعف في كل جوانب العملية التعليمية، ففي ما يخص إتقان القراءة والكتابة يقول إن الأمية «صمدت أمام محاولات القضاء عليها، ولذلك لا يزال الإنجاز التعليمي الشامل بين البالغين في البلدان العربية ضعيفاً». وفي ما يخص التعليم ما قبل المدرسي، يقول التقرير إن «نسبته في العالم العربي تقل عن متوسط الالتحاق في الدول النامية». وفي الالتحاق بالتعليم النظامي يرصد التقرير أنه «تباطأ في التسعينات (من القرن الماضي) بالمقارنة مع معدله في الثمانينات»، وأنه «قصر حتى الآن عن استيعاب الأفواج الجديدة من المواطنين العرب». أما الإنفاق على التعليم في العالم العربي، فيشير التقرير إلى تضاؤل ملحوظ له بعد العام 1985، وإلى ظاهرة الدروس الخصوصية التي تلقي عبئاً على كاهل الأسر، وإلى «فقدان التعليم دوره المهم بوصفه وسيلة للصعود الاجتماعي، ليوشك أن يصبح وسيلة لتكريس التكلس الاجتماعي». وتمتد المظاهر السلبية، كما يشير التقرير، إلى جودة التعليم وعدالة فرص توفيره. وهناك أيضاً رؤية شاملة للتغلب على مشاكل التعليم في هذا التقرير وفي التقارير التي صدرت في السنوات التالية.
ربما يقول قائل إن تراكم المشاكل العربية لا يجعل الحديث عن إصلاح التعليم العربي مجدياً، ومن الأفضل الاهتمام بالتعليم في دول الخليج العربية وفي بعض البلدان العربية التي تسجل تطوراً لا بأس به عالمياً. لكن دافعي إلى الحديث عن ضرورة إصلاح الأوضاع التعليمية في العالم العربي كلاً ينبع من حقيقة أن رفع سوية التعليم والنهوض به في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية أو بعضها، لن يمنع التأثيرات الهائلة لتهاوي التعليم وانهياره في المنطقة العربية كلاً، لأن المشاكل الناجمة عنه عابرة للحدود بطبعها، ولا تقتصر آثارها على الدول التي تعاني التراجع التعليمي، بل إن نتائجها تنتقل بالضرورة إلى بقية الدول العربية التي قد تدفع ثمناً باهظاً لمشكلة لم تتسبب هي فيها.
إن استشراء الإرهاب، على سبيل المثال، يعود في جزء منه إلى مشاكل في العملية التعليمية التي تعجز عن بناء العقل الناقد وتكرس الأحادية والتعصب والكراهية، سواء من خلال طرائق التعليم ووسائله أو من خلال محتوى المناهج الدراسية، أو من خلال نفاذ الجماعات المتشددة إلى الوزارات والهيئات التي تدير عملية التعليم باعتبارها من الجهات التي تستهدفها هذه الجماعات. ووجود مثل هذه الظواهر في دولة عربية ما، لا يعني أن خطرها يتوقف داخل هذه الدولة، بل أنها ستكون حاضنة لأفكار وممارسات تنتقل بسرعة إلى دول ومجتمعات أخرى. وبناء على ذلك، فإن ما تحرزه دولة عربية ما من تقدم في نظامها التعليمي لا يعني أنها بمأمن من مخرجات فشل التعليم في الدول العربية المجاورة.
ترسخ في العالم خلال السنوات الماضية أن المعرفة أصبحت أحد عوامل تحقيق الثروة والمكانة للدول في العالم المعاصر، وأن الكوادر البشرية التي تتلقى تعليماً جيداً وتأهيلاً رفيعاً وتدريباً متطوراً ومستمراً هي حجر الأساس في أي نجاح اقتصادي أو تنموي. والأدلة على ذلك أكثر من أن تحصى، والدول التي استطاعت العبور من مأزق الفقر والتراجع إلى التطور والنجاح فعلت ذلك عبر بوابة التعليم أولاً، ويصدق ذلك على سنغافورة وكوريا الجنوبية وماليزيا وغيرها من الدول التي حققت نجاحات مطردة وتغلبت على ظروف أصعب من تلك التي كانت تواجهها الدول العربية في نهايات القرن السابق ومطلع القرن الحالي. ورغم أن الأوضاع العربية أصبحت أكثر سوءاً وتعقيداً، فإن وصفة النجاح تبقى هي ذاتها، ويبقى التعليم ركنها الأكثر أهمية وإلحاحاً.
الفشل الاقتصادي والتنموي هو ما قاد إلى انفجار العالم العربي في صورة اضطرابات جماهيرية خرجت عن سياقها منذ ما سُميّ بـ «الربيع العربي»، وأحيت النزعات العرقية والطائفية والأيديولوجية. وهذا الفشل الاقتصادي والتنموي يعود في جزء منه إلى انهيار التعليم وتراجعه، ما يعني أن الكلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي ندفعها في الوقت الحالي، كان يمكن تجنب بعضها لو نال التعليم في الدول العربية الاهتمام الذي يستحقه.
النتيجة التي يمكن أن أصل إليها من خلال هذا التصور، أن قضية مثل التعليم في العالم العربي أصبحت أكبر من أن تُترك للتربويين وحدهم، وأن الأمر في حاجة إلى قوة دفع كبيرة على مستوى القادة السياسيين أنفسهم، لأن الأمر لم يعد قضية فنية يتولاها تكنوقراطيون، ولم يعد شأناً تقتصر آثاره على كل دولة على حدة. وبذل الجهود والأموال ووضع الخطط على المستوى العربي كلاً، إنما هو خط دفاع أول عن الاستقرار والأمن والتنمية في الدول العربية التي شهدت تجارب تنموية ناجحة وحققت إنجازات كبيرة، وعلى رأسها دول الخليج العربية.
ما يؤهل دول الخليج للعب هذا الدور عربياً، أن قادتها جعلوا التعليم أساساً في رؤى تطوير دولهم ونهضتها، وما يبدون من اهتمام به تتجلى ثماره في الإحصاءات العالمية التي تمنحهم الصدارة على المستوى العربي وتضعهم في موقع متقدم عالمياً ومتحسن باطراد. ويتجلى اهتمام القيادات الخليجية بالتعليم في مبادرات لا تتوقف، ولعل آخرها مبادرة «التربية الأخلاقية» التي أطلقها ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان من أجل ترسيخ مكانة القيم الفاضلة والأخلاق الإنسانية في نفوس الطلاب، باعتبارها إطاراً لا غنى عنه للتطور والنهضة.
نقلًا عن صحيفة الحياة
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة