ما كان ينقص الشرذمة العربية التي نعيش، إلا اجتهادات يوسف زيدان الخلاقة
ما كان ينقص الشرذمة العربية التي نعيش، إلا اجتهادات يوسف زيدان الخلاقة، خلال لقاء مهرجان «تويزا» المغربي، حول ما سماه «الحتة الوسطى» من الجزيرة العربية. وبعد أن كان نحاة العربية الأوائل، معروفين بأسمائهم وأعمالهم الجليلة، دفع فيلسوف الأمة ومفكرها الكبير باستنتاجاته المبتورة، للتلهي بالبحث عن أماكن مولدهم ونشأتهم، لتقّصي مسقط رأس كل منهم، إْن كان في اليمن أو غيره، وكأنما ذلك يغير في واقع الحال شيًئا. وكنا لنتعاطف مع زيدان ونتفهمه لو قال: إن العربية كانت في الجزيرة، مع بدء الدعوة، بلاغة في السليقة واجتهاًدا في الشفاهة، وفصاحة في الشعر، وإن العرب في صدر الإسلام، مع بدء توسع الرقعة الجغرافية، شغلوا بالتدوين لحفظ تراثهم خوًفا عليه من الضياع والتشتت، بفعل الفتوحات الإسلامية المتسارعة، وإن التقعيد وبروز النحاة لم يبلغ أوج ازدهاره إلا مع المدرستين «البصرية» و«الكوفية». هذا كله لا عيب فيه، ولا ينتقص من أهل الجزيرة، كما أنه لا يرفع، في أي حال، من شأن العراق النازف والبائس. الاختلاف على التاريخ، هو حيلة الضعيف، الذي ضيع حاضره. وإن نبدأ بنبش التهم لبعضنا، على طريقة زيدان، فسنجد أن لكل منطقة ما يمكن أن ترمى به بالسهام. ففي ذاك الزمن، كما اليوم «سّراق إبل» و«قّطاع طرق»، و«سفاحون» و«خونة» و«مؤلهو موتى».
قراءة الماضي، علمًيا، لا تكون بألفاظ مبتذلة، واستصغار للشعوب، واجتزاء للوقائع، والقول: «إن الجزيرة لم تعرف عالًما واحًدا في العربية»، هذا ليس مما يخدم اللغة ولا أهلها، وإن كان يرفع نسبة التشويق في القاعة التي كان يتحدث فيها. وعلى زيدان أن يراجع ما كان قد قاله في عّمان ذات يوم، معتبًرا «أن أحلامنا واحدة ولغتنا واحدة وبالتالي على الأديب مهمة إضافية للحفاظ على اللغة باعتبارها من الروابط الباقية بعد التباين السياسي والاقتصادي والتعليمي، إذ لم يبَق من رابط غيرها». فهل بتقسيم الأمة المبتلاة عن بكرة أبيها، إلى فئة أنجبت نحاة وأخرى أصابها العقم، وشعوب بحضارة وأخرى بلا حضارة، ننقذ السفينة الغارقة، أم أن زيدان تبرع بأن يقصم ظهر البعير؟ أوليس دور المثقف هو البحث عن المشتركات في أزمنة الفرقة، ووشائج الإنسانية حين تسود المجازر؟
قبل أهل الجزيرة بسنوات، هاجم زيدان الجزائريين، يوم وصف طلابها في مصر، الذين جايلهم أثناء دراسته، بأنهم «كانوا مثالاً للعنف والتعصب»، وذلك في معرض مقال له عن زيارة غير موفقة قام بها للجزائر. ولا نعرف كيف نبش زيدان الذي له «ذاكرة فيل»، فيلم يوسف شاهين عن سيرة جميلة بوحيرد، ليقول للجزائريين إن المخرج المصري بعرض عمله هذا على نحو واسع «جعلهم في أذهان الناس بلًدا خليًقا بالاحترام».
هل يعقل هذا النهج في الكتابة من رجل باحث؟ هل هذه هي أخلاق العالم الرصين؟ أو هكذا يتعاطى المثقف مع أبناء أمته التي يفترض أنه يفكر من أجل خيرها؟
كنا لنلتمس للرجل العذر، لو لم يكن في روايته «عزازيل» مدافًعا عن إنسانية البشري أولاً، بمعزل عن دينه وانتمائه ورأيه، وفي «النبطي» وجدناه باحًثا عن التعايش والتسامح، داعًيا إلى صون التراكم التراثي. لا غضاضة في الاجتهاد، وفي مخالفة السائد، لا بل هذا دور المثقف وواجبه، شرط ألا يصبح التجريح مباًحا والاستخفاف بالآخر، كما التمييز، نهًجا، تحت ذريعة حرية الرأي. معضلة زيدان الكبرى ليست فيما يطرح، وإنما في أسلوبه الفج، و«الشعبوية» التي يبتغيها أبًدا، حًبا في تنمية عدد المتابعين والـ«ملّيكين» على وسائل التواصل التي يعشقها حد هدر الرصانة، على مذبح إرضاء الجماهير وتحميسهم.
ليوسف زيدان رأي في المسجد الأقصى، أثار غضًبا كبيًرا. وكان كمال الصليبي قبله، قد كتب في التاريخ أكثر من ذلك، وقال: إن كل المذكور في الأناجيل من أماكن نظن موقعها فلسطين، هي في الجزيرة العربية، وإن المسيح كما يعرفه المسيحيون اليوم، أتى نتيجة دمج تاريخي، بين ثلاث شخصيات، وليس شخًصا واحًدا. وقد سألت مطران الروم الأرثوذكس في لبنان جورج خضر يومها، كيف للكنيسة أن ترد على هذه التفسيرات. أجابني بهدوئه المعهود: «لن يزيد المؤمنون واحًدا ولن ينقصوا بعد كتاب الصليبي». وكذلك لن تتحسن أحوال اللغة العربية، كما أنها لن تفقد المزيد من ألقها المهدور، بعد أقوال زيدان. كما أن الحرب الطاحنة في اليمن، لن تحل قضيتها، بنسبة أصل العربية إلى ذلك البلد بعد أن غادرته السعادة. لكن الحقيقة العلمية، تخسر كثيًرا جًدا، ونخسر معها، بسبب انخراط كثير من المثقفين في البازار السياسي الرخيص، وانشغال بعضهم بتنمية شعبيتهم الافتراضية، وهوس آخرين بجنون العظمة.