وفي ظل الغياب التام للجامعة العربية وضعفها وعدم قدرتها على القيام بأي خطوة إيجابية في أي ملف من ملفات المنطقة،
رغم أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية لم يصل بعد إلى تحقيق كل المأمول منه، ورغم بعض الخلافات في مواقف دوله تجاه بعض الملفات، إلا أنه أثبت أنه أكثر المنظمات الإقليمية ثباتاً وقدرة على التصدي لكثير من الملفات، وأنه صمام أمان للمنطقة كلها بفضل ما تمتلكه دوله من استقرار سياسي، وما تتمتع به من علاقات دولية وتأثير واضح في المحافل الدولية، الأمر الذي جعل تدخلها في كثير من القضايا الإقليمية والدولية مثمراً وفاعلاً.
وفي ظل الغياب التام للجامعة العربية وضعفها وعدم قدرتها على القيام بأي خطوة إيجابية في أي ملف من ملفات المنطقة، وتحولها إلى منظمة مترهلة، فإن المنطقة العربية باتت تعوّل على مجلس التعاون الخليجي في النهوض بأدوار مهمة في حل قضاياها، وعلى رأس ذلك قضية الإرهاب الذي صار أمراً واقعاً للجميع، ولم يعد مشكلة عربية إسلامية فقط، بل صار مشكلة عالمية، ووصلت نتائجه إلى دول كثيرة على مستوى العالم، فاكتوت بناره دول كانت تحسب نفسها تعيش في منأى عنه، كما حدث في التفجير الإرهابي الذي طاول قلب باريس في الشهر الماضي.
شواهد الإرهاب العالمي أكثر من أن تُحصى. وواقع ما يجري على الأرض عالمياً وإسلامياً وعربياً وتداعياته الخطرة، يصيب الإنسانية كلها في مقتل. فبين قتل وتهجير وتشريد، وفقدان للحدود الدنيا للحياة، وحرمان ملايين الأطفال من التعليم، وانتهاك أعراض آلاف الأسر، تبدو الخسائر جسيمة موجعة، الأمر الذي يحتم على الجميع محاربة الإرهاب محاربة من نوع مختلف، فلا تكون هناك مهادنة أو التفاف عليه أو إطلاق مسميات خجولة عليه، بل ينبغي أن تكون هناك جهود جادة لاقتلاعه من جذوره واستئصاله، ولا سيما أننا نرى نتائجه الكارثية كل يوم. وما لم تكن مواجهته جذرية فإن دوامة العنف ستعود لاحقاً إلى الواجهة من جديد، وربما تكون عودتها مصحوبة بمزيد من القوة أو بحصولها على أسلحة متطورة تزيد من صعوبة القضاء عليها.
لقد استطاع الإرهاب تغيير الأولويات والبرامج الحكومية على مستوى العالم أجمع من إنمائية إلى أمنية. فما كان من شأنه أن يحقق الرخاء والسعادة والتقدم تراجع في سلم الأولويات، وانقلبت حاجة العالم الملحة إلى مكافحة الإرهاب. وهذا كله يشكل خصماً من رفاهية الأفراد وحصولهم على ما يطمحون إليه من عيش رغد وكريم في جميع دول العالم، المتحضرة والمتقدمة والمتخلفة والمصدرة لحركات التطرف والإرهاب والمستوردة للإرهاب. العالم كله اليوم ليس في مأمن من الإرهاب والتطرف، وباتت رسالة صغيرة أو مكالمة مختصرة يوجهها «إرهابي» تارة، وشخص «عابث» تارة أخرى، كفيلة بهز أجهزة الأمن في أي دولة، وربما شل الحياة في عاصمة كبيرة كما حدث في بروكسيل بعد هجمات باريس، أو إغلاق بعض المطارات لساعات، وإلغاء عدد من شركات الطيران رحلاتها إلى أكثر من بلد، وهذا كله يشكل استنزافاً للأمن والاقتصاد على السواء، فضلاً على الهلع والذعر الذي يصيب الأفراد، والآثار النفسية التي تترتب على ذلك.
ﻻ شك في أن بلداننا العربية والإسلامية هي الأكثر اكتواء بنار التطرف. فالأبناء أبناؤها، وأرضها باتت مسرحاً للدمار والقتل والتخريب. فمن أفغانستان ومغارات وكهوف «تورا بورا» إلى السودان إلى الحركات الأصولية التي أقلقت القرن الأفريقي، إلى مصر وليبيا وسورية والعراق، وليس انتهاء باليمن. كما أن هذه الحركات المتطرفة الإرهابية ذات منشأ ديني، تعتمد على جدلية الثقافة والثقافة المضادة، وتكمن خطورتها في إمكان تقسيم المجتمع إلى قسمين متناحرين متقابلين متضادين.
الإرهاب يتبدى في أكثر من شكل، ويلبس أكثر من ملبس، والإرهابيون يطالعوننا كل يوم بمسميات جديدة لتنظيماتهم التي تتناسل بكثرة، وتنسب نفسها إلى السنة تارة وإلى الشيعة تارة أخرى والدين منها براء.
وهذه الحركات الإرهابية، وإن زعمت أنها تشكلت بدواعي الظلم الاجتماعي والتهميش والفقر وحماية المذهب والطائفة أو تحقيق مبدأ الحاكمية والخلافة وغيرها من مصطلحات تعج بها حركات الإسلام السياسي، فإنها لم تعدم منظرين وممولين ركبوا مركبها لأغراض مختلفة. ومن يتابع الحركات المتطرفة في العالم يكتشف ببساطة أن الإرهاب ﻻ يقتصر على شريحة من البسطاء والمهمشين، بل عزز وجوده بعقول وأدمغة غاية في الخبث والشر، وبرؤوس أموال تبنت ودعمت ومولت، وبإعلام مشبوه بات له «نجومه» و «شياطينه» الذين يحاولون حشو أذهان الشباب بكمّ كبير من التجهيل والشحن الطائفي والمذهبي، الأمر الذي ضمن استمرار الحركات المتطرفة الإرهابية لوقت أطول، وقوّض من مكانة الدولة وهيبتها في أكثر من مكان.
على الغرب اليوم أن يبحث أيضاً عن الأسباب التي أنعشت الإرهاب وأوصلته إلى هذه المرحلة من القوة والهيمنة، وهو سيجد من دون أدنى شك أن سياساته في المنطقة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبعد نيل الدول العربية استقلالها تباعاً، كانت وراء انتعاش التطرف والإرهاب، إذ كان يغض الطرف عن أخطاء قاتلة لأنها كانت تصب في مصلحته فقط.
ومهما كان من خطر الإرهاب والتطرف على العالم، فإن الخطر الأساس والأكبر يقع في مجتمعاتنا وبلداننا، لا سيما أن طبيعة بعض الأنظمة العربية والإسلامية أسهمت إسهاماً كبيراً في إنعاش حركات التطرف والإرهاب، وعززت تحولها إلى شبكات منظمة تغولت في بعض المناطق كما هي الحال في سيطرة «داعش» على عدد من المدن والقرى في سورية والعراق.
يتطلب هذا التصدي للإرهاب والعمل على القضاء عليه في منابعه وبيئته. وﻻ بد من تحرك ملموس وخطوات مدروسة وسريعة، فالحرب على الإرهاب تحتاج إلى خطط أمنية وعسكرية وتحركات ميدانية وعمل حثيث ﻻ يتوقف ويراعي الحلول الجذرية للمستقبل، وفي مقدمها إعادة النظر في أنظمة التعليم والمناهج التي يتم تدريسها لأبنائنا، وفي كل المستويات، لإعداد الأجيال المقبلة إعداداً أخلاقياً بعيداً من التطرف. كما يجب العمل على إصلاح المؤسسة الدينية ورفع سوية الخطاب الديني. وكذلك إعادة النظر في العلاقة بين أبناء المجتمع الواحد وفي علاقاتنا مع بقية دول العالم وشعوبه.
الحرب على الإرهاب ضرورة. لكنها لن تكون ذات جدوى على المدى المنظور والبعيد إﻻ إذا ترافقت مع خطوات عملية وسياسية واجتماعية على أرض الواقع. ولم تعد الدعوات إلى عقد مؤتمر هنا وندوة هناك تجدي، وصار لا بد من حلول ذات صدقية تأخذ في أجندتها القضاء على كل أسباب التطرف والإرهاب. فهل ينهض مجلس التعاون الخليجي وهو الجهة الوحيدة المؤهلة لذلك في المنطقة، بهذه المهمة الشاقة، ويترجم ما جاء في بيانه الختامي في شأن محاربة الإرهاب إلى خطوات ملموسة تستطيع إنقاذ المنطقة خصوصاً، والعالم عموماً، من براثن الإرهاب؟
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة