وداعًا إدوار خراط

ولذلك ليست كتابة الرواية عند إدوار نقلا لمسلمات العالم، وإنما مساءلة للعالم، ليست محاكاة للواقع وإنما إعادة تشكيل لهذا الواقع.

انفصل إدوار الخراط عنا منذ ثلاثة أعوام بسبب مرض الزهايمر، كأنه يمارس فعل الاحتجاج على العالم القبيح الذى نعيشه، فآثر البعد عنه بذاكرته، آخر مرة رأيته فيها كانت في دار التنوير منذ أشهر معدودة، كان ذلك بمناسبة إصدار الدار لأعماله الكاملة، جلست إلى جانبه، كما أراه في إطار الصورة التي تواجه مكتبي على أرفف الكتب، لم يعرفني ولم يشاكسني كما هي العادة، كان ذاهلا، يتطلع إلى الجميع كأنه طفل أجبروه على الإتيان في احتفال لا يخصه، قبلت وجنتيه قبل أن أجلس إلى جانبه، فلم يبادلني التقبيل، قال لي: أهلا.. جلست متأملا: كيف يستطيع هذا المرض اللعين أن يسرق واحدا من أنبه العقول العربية، وأكثرها ذكاء وتوقدا ذهنيا، ورهافة رفيعة في الكتابة.. تتداعى إلى ذهني جلساتنا في مكتبه المزدحم بآلاف الكتب، وهو جالس في حضرتها، كأنه كاهن في معبد، شعره نافر من الناحيتين، صوته لا يكف عن إبداع الأفكار مثل قلمه، منذ أن جاء أدونيس إلى القاهرة، وهو يصحبني إلى زيارته، وننسى معه انقضاء الزمن، ولا نكف عن النقاش، كان أدونيس يرى في إدوار شبيها له، هو رائد حداثة الشعر، وإدوار رائد حداثة الكتابة، فشجع على انتشار الكتابة الجديدة أو الحساسية الجديدة، وعلمنا أن نتمرد على كل كتابة لا تضبط الإيقاع المتوتر لعصرها، كان كالمغناطيس يجذب إليه كل العقول القابلة للتمغنط، كل المواهب التي تستبدل كتابة بكتابة، وأن تمضى حوله وبموازاته، فالكتابة عنده شعيرة مناقضة للواقعية، مساءلة للذات وللكون، تماما كالرسم الذى يفارق ضفاف المحاكاة الحرفية، ولذلك كان مفتونا بلوحات عبد الهادي الجزار وعدلي رزق الله.. وكان منفتحا على كل إبداع؛ قصة قصيرة، رواية، نقد أدبي، ترجمة، منحازا دائما إلى الواعد من الأجيال، يرى الماسة وسط ركام الكتابة التي لا تلفت انتباه أحد إليها، ولكنه وحده يرى الماسة تحت الركام، فيساعد صاحبها على اكتشافها وصقلها، فيتعلم صاحبها سر الكتابة وأبجديتها، كما يتعلم الأسرار التي يصل بها إلى دنيا الحداثة.

الوعى الضدي، والحس الساخر، والعقل الذى يؤثر السؤال على الجواب، واللغة التي تجتلى ذاتها، وتشير إلى حضورها في الوقت الذى تشير إلى موضوعاتها. والأنا التي تغوص عميقا في طبقات الشعور واللاشعور، المشاعر المتعارضة المتنافرة للبطل اللابطل، الحوارية التي لا تتوقف بين تجليات ميخائيل وتجليات رامة، القارئ المضمر الذى يوازى المؤلف في الأهمية والأدوار، ذوات الأبطال المتشظية كالمرايا التي يتواشج في فضائها الحضور والغياب، في الجدلية التي هي إعادة بناء للنقائض التي ترى الزمن الآخر، فلا يبقى عندها محل لليقين سوى يقين العطش، كلها خصائص أساسية استهلالية، لا تفارقها روايات إدوار الخراط وقصصه القصيرة، وتتضمنها بوصفها علامات مائزة على نزوعها التجريبي، وسواء أطلقنا على هذا النزوع اسم الحداثة أو ما بعد الحداثة، فالمسميات المتعددة هي الوصف التقريبي لكتابة إدوار الخراط التي لا يمكن لقارئها إلا أن يلحظ الوعى الضدي للكتابة، والنسبية المعرفية التي تجسدها وتتجسد بها.

وإذا كانت النسبية المعرفية التي تنبني بها أو تنبني عليها روايات إدوار، تجعل من كتابتها فعلا من أفعال الاكتشاف الذى لا ينتهى بانتهاء الرواية أو القصة القصيرة، فإن هذا الفعل يكرر حضوره على مستوى القراءة، بوصفه فعلا مفتوحا يدعو القارئ إلى ممارسته، من حيث هو فاعل آخر للفعل نفسه، وهذا هو السر في أن قارئ أعمال إدوار، سيقرؤها مرات ومرات، والبداية عند إدوار والقارئ الذى يتعاطف مع كتابته ويقبل عليها هي رفض المتعارف عليه، ونهايتها محطة مجهولة الهوية، لكنها محطة عامرة بالكشوف التي تغدو كالكنوز المخبأة التي لا تعطى نائلها بسهولة أو يسر.

ولذلك ليست كتابة الرواية عند إدوار نقلا لمسلمات العالم، وإنما مساءلة للعالم، ليست محاكاة للواقع وإنما إعادة تشكيل لهذا الواقع، إنها كتابة لا تدخل في باب الرواية الرائجة، ولا باب الرواية المسلية، إنها فريدة في بابها، لابد أن تصبر عليها إلى أن تتحقق متعتها فيك وبها وبك في آن، فهي ليست نقلا لما سبق تصوره في الذهن، أو حكيا محاكيا للعالم، أو سردا لخبرات مستعادة أحادية الدلالة، أو تكرارا لما سبق للآخرين معرفته، وإنما هي فعل من أفعال الاكتشاف الذى لا يكتمل، كأنه يقين العطش، إنه فعل أشبه بالسفر إلى محطة تظل نائية، كأنك تسافر إلى مكان لا تعرفه ولن تثق أنك عرفته تماما.

ولا ينصرف ذلك إلى فعل الكتابة نفسه، أو ما يشير إليه في الخارج دون سواه، فالكتابة تنعكس على نفسها في فعل قراءتها، وتزدوج حركتها، فتغدو فاعلا لاكتشاف ما هو خارجها، ومفعولا في فعل اكتشاف ما هي عليه في ذاتها، فتزدوج إحالتها، وتغدو أشبه بالفعل النحوي الذى يتعدى إلى مفعولين متكافئين في الرتبة، ولكن تظل الإحالة الأولى إحالة تنطوي على جدل الحضور والغياب الذى يؤدى إلى وجود التناص في نسيج الكتابة، الذى يؤكد فاعلية القارئ في ملء ثغرات الكتابة، أو إقامة العلاقات بين شظاياها المنكسرة، ومن ثم رد علاقات الغياب على علاقات الحضور، هكذا تحدث الإحالة التي تنقلنا من النص إلى ما يقع خارجه، من دواله إلى مدلولاته التى هي سواه، أما الإحالة في المستوى الثاني من الكتابة فهي إحالة ذاتية، دالها هو مدلولها بأكثر من معني، وذاتها الواصفة هي بعض من موضوعها الموصوف، وإذا كانت الكتابة تشدنا إلى حضورها الكتابي والصوتي في حالات التصاقب، والبصرى في حالة تعمد إطالة الجمل ووضع النقاط، فتغدو الكتابة أشبه بالزجاج الملون الذى يشد أنظارنا إلى حضوره الذاتي وتلويناته، في الوقت الذى يتيح لنا النظر إلى ما وراءه.

ولذلك تغدو كتابة إدوار الخراط وعيا ضديا، منقسما على نفسه، يطرح السؤال على ذاته التي تغدو موضوعا للسؤال، إنه وعى ميخائيل فى «رامة والتنين» و«يقين العطش» و«الزمن الآخر». أعني، أولا، وعى من يتكلم، لكنه يعي في وقت التكلم، أن حواجز الكلمات قد سدت علينا المنافذ، وأعنى ثانيا، الوعى الذى يمكن أن يشطح شطحات فرويدية، لكنه يعرف، كما يعرف ميخائيل، أن شطحاته الفرويدية لا تساوي الكثير، إنها سهلة وساذجة، وربما مخاتلة ومغشوشة، في سخرية الذات من الذات التي تعلم أن الصدق الذى تنشده، كالنجم الذى لن يضم عليه أصابعه أيضا.

هذا النوع من الكتابة قد يشف فيغدو استعادة لذكريات عن الإسكندرية كما في «ترابها زعفران»، أو «بنات إسكندرية»، وقد يقع في منطقة الما بين، لكنه -على كل حال- وعى أصيل، صاحب مشروع حداثي فريد من نوعه، لا يمكن تقليده أو محاكاته، ولذلك كانت كتابات إدوار الخراط كتابة عبر نوعية يبحث عنها قراؤها الذين امتلكوا بعض مفاتيحها، ولا يقرب منها القراء الذين يؤثرون الرواية الرائجة، أو رواية التسلية والترفيه، أو الرواية التي تعطى نائلها من أول نظرة، لقد سلك إدوار الخراط المسلك الصعب الذي لا يقدر عليه سوى أولى العزم من كبار المبدعين الذين يجعلون من الكتابة كشفا عن كل ما يظل في حاجة إلى الكشف، وقد حاول إدوار الخراط أن يعلمنا ذلك بأن يجعلنا ننظر إلى ما تحت الأسطر فنرى ما لا نراه، عادة، كما علمنا أن ننزع القداسة عن كلما يبدو مقدسا وهو في الحقيقة غير ذلك، ومنذ «حيطان عالية» التي صدرت في سنة1959 والتي احتفت بها الأوساط الثقافية في العالم العربي إلى آخر ما كتب، وإدوار الخراط يفتح لنا آفاقا كتابية لم تفتح، ومساحات من الوعى لم تكتشف، ترفض اليقين وتسائلنا كما تسائل الكتابة في الوقت نفسه... رحم الله إدوار الخراط، لم أستطع أن أحضر تأبينه في الكنيسة لظروف قاهرة، ولكنى أقول له بعد رحيله: وداعا أيها الصديق العزيز، والقيمة التي لن تتكرر.

*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*