كانت السينما هي رفيقتي الأسبوع الماضي، انتهى الفصل الدراسي لتوه، وبدأت إجازة طويلة نسبيا وممتدة حتى نهاية العام.
كانت السينما هي رفيقتي الأسبوع الماضي، انتهى الفصل الدراسي لتوه، وبدأت إجازة طويلة نسبيا وممتدة حتى نهاية العام، كانت فرصة للاتصال ببعض الأصدقاء وقضاء بعض الوقت أمام شاشات العرض، في أسبوع واحد ذهبت لدور العرض خمس مرات وكنت محظوظا في أن الأصدقاء المشغولين عادة قاموا بتلبية عرضي بهذا الشكل المكثف باستثناء يوم واحد انشغل الجميع، فقررت الذهاب بمفردي، ولكني كنت محظوظا بالتعرف على زوجين في السبعينيات من العمر، تناولنا بعض الطعام معا في اليوم التالي للعرض.
حينما أشعر بتوتر أو بضغط لأسباب عامة أو خاصة، فتكون شاشات العرض هي الدواء، فأمامها تترك الدنيا بمآسيها خلفك وتختلس بعض الوقت للهروب من الواقع ومعايشة حكايات مختلفة، كنت محظوظا بالاستمتاع بمشاهدة أربعة أفلام من ثقافات وحضارات مختلفة، وكانوا جميعا يدورون حول علاقة البشر بالسلطة والكفاح في الحياة... دعوني في السطور القادمة أشارككم بعرض ملخص لهذه الأفلام وكيف عالجت هذه القصة المعقدة.
***
• الفيلم الأول هو فيلم سبوتلايت Spotlight، وهو فيلم دراما أمريكي لعام ٢٠١٥ من إخراج توم ماكارثى وجوش سنجر، ويحكى قصة واقعية تعود أحداثها لبداية الألفية الثالثة، عندما قرر فريق من الصحفيين تتبع لغز قضايا قديمة تخص الانتهاكات الجنسية التي ارتكبها بعض رجال دين الكنيسة الكاثوليكية في بوسطن الأمريكية في سبعينيات القرن الماضي، يتتبع فريق التحقيق الصحفي هذه القضية الحساسة في مدينة تلعب فيها الكنيسة الكاثوليكية دورا مهما للغاية في حياة الناس، لم يكن على فريق التحقيق فقط محاربة القضاء المتواطئ مع الكنيسة لإخفاء سجلات القضية، ولا الشرطة غير المتعاونة، ولا قطعا الكنيسة المتحفظة لأى محاولة للاقتراب منها، ولكن كان عليهم أيضا مواجهة التحدي المجتمعي وهو الأصعب على الإطلاق! فما بين محامين وصحفيين يخشون انقطاع عوائدهم المادية وخسارة عملائهم أو قرائهم نتيجة لهذه القضية، وما بين ضحايا يخشون الفضيحة، تدور قصة الفيلم والذى ينتهى أخيرا بنجاح الفريق في كشف القضية للرأي العام، وهو ما اتضح معه تورط آخرين في الكنيسة داخل وخارج الولايات المتحدة، رسالة الفيلم كانت واضحة ليس فقط في تحدى سلطة الكنيسة، ولكن الأهم في كسر تابوهات المجتمع لحماية أفراده من أي انتهاكات تمارس باسم الدين أو تحت سطوة رجاله.
• الفيلم الثانى هو Suffragette وهو فيلم دراما بريطاني لعام ٢٠١٥ من إخراج سارة جافرون، ومن تأليف أبى مورجان، وهو أيضا مأخوذ من قصة واقعية لحركة نسائية بريطانية تكونت في العقد الثاني من القرن العشرين لتمكين المرأة من حقوقها السياسية، ولاسيما حق التصويت،ـ بعكس الفيلم الأول الذى ركز على المدخل الجماعي المهني لتفكيك سطوة السلطة، فإن هذا الفيلم قد ركز على المدخل الفردي من خلال الاقتراب من قصة إحدى بطلات الحركة النسوية الشابة البالغة من العمر ٢٤ عاما، والتي تعمل في مغسلة وتتحمل مسؤولية بيتها وزوجها وابنها، تقرر البطلة الانضمام إلى الحركة، وتنضم للمظاهرات والاحتجاجات المطالبة بحق المرأة في التصويت، وتتعرض لمتاعب من السلطة التي قبضت عليها في إحدى تلك التظاهرات، لتتلقى تهديدا ووعيدا من زوجها بالطرد من المنزل ما لم تتوقف عن الاشتراك في هذه الحركة، وأن تتحمل مسؤوليتها كزوجة وأم... ما تلبث الزوجة أن تخلف وعدها مدفوعة بقصص معاناة ومآسي الفتيات في المجتمع، واللاتي رأتهن مغلوبات على أمرهن منصاعات للمجتمع من خلال عالم المغسلة وتحرش المدير بالعاملات، تقرر البطلة مواصلة الكفاح، وتتعرض إزاء ذلك إلى الطرد من المنزل وحرمانها من ابنها وتحرش مديرها في العمل، كما تتعرض للحبس والسجن والتعذيب على يد البوليس الذى حاول استمالتها أخيرا، ثم تفقد أعز صديقاتها في الحركة، حيث لقيت الأخيرة مصرعها بينما تحاول التسلل إلى حلبة سباق للخيل لعرض مطالب الحركة على الملك جورج الخامس، عالم كامل من المآسي والأوجاع والآلام ينتهى أخيرا بنجاح الحركة في الحصول على حق التصويت للمرأة في انجلترا عام ١٩٢٨، وهو ما تبعه دول أخرى غربية وشرقية، ليصبح الحق في التصويت حقا طبيعيا للمرأة في معظم أرجاء المعمورة.
***
• الفيلم الثالث كان بعنوان PK وهو فيلم كوميدي اجتماعي هندي صدر في عام ٢٠١٤ من إخراج راج كومار هيرانى وتأليف هيرانى وأبهيجات جوشى، يحكي الفيلم قصة الصراع مع رجال الدين ومحاولاتهم احتكار الحقيقة باسم الله، من خلال قصة خيالية لبشر من كوكب آخر ينزل على الأرض في محاولة للتعرف على أهلها، ينزل كالمولود الجديد بلا لغة ولا دين ولا ملابس، لا يعرف الكذب ويتحدث مباشرة بما يقوله عقله، بمجرد نزوله للأرض تسرق منه قلادته وهى وسيلته الوحيدة للتواصل مع أهل كوكبه والعودة إليهم. يتعرض لمجموعة من المشكلات الطريفة وهو في رحلة استعادته للقلادة، بحيث إنه يطلب من كل الأديان مساعدته، يذهب للمعابد البوذية والكنائس والمساجد، ويصلي لله بحسب طقوس كل دين، ولكنه لا يستطيع أن يتواصل مع الله ليجد له قلادته، ولأنه يحسن الظن برجال الدين فاعتقد أنهم لا يتواصلون مع الإله حقا، وأن شخصا ما يمزح معهم ويقول لهم كلاما خاطئا يقومون هم بدورهم بإيصاله إلى أتباعهم... في رحلة بحثه عن القلادة والحقيقة يتعرف على فتاة هندية هندوسية فرقها الدين عن حبيبها المسلم الباكستاني الذى تعرفت عليه في بلجيكا، ويصمم رجل الكوكب الآخر مع البطلة، التي فرق الدين بينها وبين حبيبها، حملة بعنوان «الرقم الخاطئ» في محاولة لكشف خداع بعض رجال الدين للأتباع، واستغلالهم لسلطتهم الدينية من أجل السيطرة عليهم وإبقاء أوضاعهم البائسة على ما هي عليه دون أن يتذمروا... تنجح الحملة ويستعيد البطل قلادته ويعيد الفتاة الهندوسية إلى حبيبها المسلم، ويفضل ألا يصارحها بحبه، ويغادر عائدا إلى كوكبه بعد أن فضح سلطة بعض رجال الدين، وهز بعض محرمات كوكب الأرض.
• الفيلم الرابع والأخير، هو فيلم «ذيب» وهو فيلم دراما عربي أردني من إنتاج عام ٢٠١٤ من إخراج ناجي أبو نوار، وتدور أحداثه في إحدى بقاع شبه الجزيرة العربية في العقد الثاني من القرن العشرين في عهد الخلافة العثمانية ومع بدايات الحرب العالمية الأولى، وتدور حول مغامرة بطلها الطفل ذيب الذى يخرج مع أخوه الأكبر في رحلة محفوفة بالمخاطر في الصحراء، ويفقد الأخ ليواجه وحده الحياة القاسية في الدروب الصحراوية، ويتعرف على حقائق الموت والحياة والسلطة والخيانة والثقة، ولكنه يعبر كل هذه الاختبارات بنجاح رغم صغر سنه، ليتعلم فنون المقاومة مع شراسة الحياة منذ سن صغيرة نسبيا، ولكنه ينجح في النهاية وينهض ليكمل المسيرة بعد سلسلة مآس وتحديات.
***
انتهى عرضي لملخص سريع لقصص هذه الأفلام، وهو قطعا أبعد ما يكون عن كونه نقدًا فنيًّا، ولكنه مجرد مشاهدة عادية لقصص كفاح ضد قسوة الحياة والسلطة والمجتمع، وللأفلام الأربعة رسائل واضحة، الأولى أن الصراع بين السلطة (كل سلطة) والبشر هو صراع قديم ومستمر غير محدود بزمان أو بمكان، وهو صراع يدور بالأساس حول قيم العدل والمساواة وتمكين الناس العاديين وتحريرهم من سيطرة كهنة السلطة.
الرسالة الثانية، أن السلطة لا تقتصر فقط عند أولئك الذين يقبعون في قصور الحكم، ولكنها تمتد لأولئك الذين يقبعون في دور العبادة أو في بيوت وجهاء القوم في المدن والقرى، السلطة السياسية هنا المعركة ضدها مليئة بالصعاب ولكنها تظل أهون من الصراع ضد كهنوت السلطة الدينية أو المجتمعية، وغالبا ما تتألف السلطات الثلاث (السياسية والدينية والمجتمعية) لإخضاع البشر للسيطرة والقبول بقواعد اللعبة ومهادنتها.
أما الرسالة الثالثة، فهي أن الكفاح ضد السلطة له بعدان: بعد شخصي يكون فيه الأفراد على استعداد أن يضحوا بحرياتهم، بقربهم من أبنائهم وأسرهم في سبيل هدف أسمى وأكبر، وهم في ذلك لا ينتظرون مكافأة أو شكرا، فهذه هي مهمتهم السامية لتعمير الأرض وإعلاء قيم العدل والحرية والمساواة، وكذلك هناك البعد الجماعي المتعلق بالتنظيم والتشبيك بين فئات مجتمعية عديدة لتحقيق الهدف الأسمى، بدون هذا الفعل الجماعي الذى يؤمن بالناس وحقوقهم وتمكينهم، فستظل مقاومة السلطة والأوضاع غير العادلة مجرد أساطير لا تسمن ولا تغنى من جوع!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الإلكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة