حبة أخرى من حبات عقد الإبداع المصرى رحلت عن عالمنا. إنه إدوار الخراطالأديب المصرى الكبير (1926 ـ 2015)...
حبة أخرى من حبات عقد الإبداع المصرى رحلت عن عالمنا. إنه إدوار الخراطالأديب المصرى الكبير (1926 ـ 2015)...
سمعت اسمه لأول مرة، منتصف السبعينيات، من خلال البرنامج الثانى بالإذاعةالمصرية (أو ما بات يعرف بالبرنامج الثقافى الآن) مع أسماء اخرى كثيرة مثل:حسين فوزى فى شرحه الأسبوعى للموسيقى العالمية، ومحمد ابراهيم أبو سنة فىأمسياته الشعرية البديعة، ومحمود مرسى والشريف خاطر فى إخراجهما للأعمال الأدبيةالعالمية إذاعيا،...،إلخ.
كان إدوار الخراط أحد المبدعين الأساسيين المعنيين بترجمة تراث الأدب العالمي،وإعداد موضوعات خاصة حول الأدباء العالميين، وحول القضايا الأدبية المختلفة،وتقديمها للبث من ضمن فقرات البرنامج الثاني، (ترجم ما يقرب من 50 عملا مسرحياللبرنامج الثانى لتشيكوف، وألبير كامي، ويوجين أونيل، وهارولد بنتر، وأرستوفانيس،وجان أنوي، وجوزيف كونراد،...،إلخ، كما أعد برامج عن وليام جولدنج، وبوريسباسترناك، أندريه بريتون، وعالج قضايا من عينة: أورفيوس الأسطورة بين جان كوكتووجان أنوي، وميديا الأسطورة بين يوريبيديسوسينيكا، واليكترا الأسطورة بين جانجيرودو وجان بول سارتر،...،إلخ.)...
وبالصدفة وقع فى يدى آنذاك/منتصف السبعينيات ـ مجموعته القصصية الأولي: «حيطان عالية» ـ التى كانت قد صدرت فى 1959. وقرأتها كاملة فى أقل من أسبوع.حيث وجدت فيها أننى أمام أديب كبير: متعدد «العوالم»، ومتنوع «موضوعات»التعبير القصصي. يخترق بقدرة غير مسبوقة فى الأدب العربي، مساحات انسانيةتعد من التابوهات» أو المحذورات. كذلك بريادة لافتة للنظر نجده يقترب من مناطقغير مطروقة من قبل فى واقعنا الإنسانى المعاصر. لم يكن أدبه قاصرا على بيئةبعينها: ريفية أو مدنية، ومناطق شعبية أو راقية. كما لم ينغلق عالمه الأدبى علىعينات بشرية أو حالات انسانية بذاتها. فكانت مجموعته القصصية الأولى مدخلالأكثر من عالم: «حيطان عالية» و«أبونا توما» و«الشيخ عيسي» و«الأوركسترا»،و«أمام البحر»، وقصة ميعاد»، وفى «ظهر يوم حار»،...،إلخ.
بدأت عقب قراءة «حيطان عالية»، البحث عن أعمال إدوار الخراط. فلم أجد.وتصادف أن عرفت فى نهاية السبعينيات إيهاب الخراط (الطبيب النفسى البارعوالسياسى القيادى بالحزب المصرى الاجتماعى والمثقف الكبير)، وتوماس جورجسيان(الصيدلى الذى هجر الصيدلة إلى الصحافة والكتابة الإنسانية العميقة التى تذكركبكتابات ابراهيم المصري، والكتابة السياسية خاصة عن أمريكا من خلال رسائلهالمنتظمة لجريدة الأهرام) وتصادقنا منذ نهاية السبعينيات وإلى الآن. حيث أمدانى بكلمن المجموعة القصصية «ساعات الكبرياء» التى صدرت فى 1972 بعد حيطانعالية ب13 عاما. ونسخة مصورة بطريقة الماستر لأول أعمال إدوار الخراط «رامةوالتنين» التى صدرت ـ لاحقا ـ فى عام 1979. ومنذ صدور هذا العمل وحتىمنتصف الألفية الثالثة لم ينقطع إدوار الخراط عن الإبداع سواء: الروائي، والقصصي،والشعري. أو من خلال دراساته المتنوعة: النقدية، والتشكيلية، والفكرية، والسياسية.كما لم يتوقف عن الترجمة قط. حيث يقترب مجموع ما أبدع من 100 عمل إبداعىمتنوع من الطراز الرفيع المستوي.
فى كل ما أبدع الخراط، سوف تجد أنك أمام كاتب كبير. «نصه»، أيا كان نوعه: ثرىوعميق ومتعدد مستويات التلقي. لقد كان الخراط مثقفا من النوع الثقيل. تجد نصوصهوقد حملت أنفاسا: «فلسفية، وفكرية، ولاهوتية وصوفية، ونفسية، وحياتية،...،إلخ، حيثتتداخل وتتراكب فيما بينها لتنتج لحظة إنسانية عميقة كاشفة ومنيرة للواقع الاجتماعىوللذات القارئة. فالخراط يصعب تصنيفه. فهو لا يمكن تصنيفه بأنه «تشيكوفي»بالمطلق، مثلا، نسبة لتشيكوف، كما كان يصف البعض يوسف إدريس. ذلك لأنأعماله تحمل نفحة تشيكوفية كما تحمل فى نفس الوقت نفحات آخرين. لذا تجد دوماظلالا من شخصيات دون كيشوتية وفاوستية،...،إلخ، فى أعماله. الكتابة لدىالخراط: متعة، وعمق، واكتشاف، كل ما هو «تحت قشرة الوعي» أو ما هو ظاهر أوعام أو مسلَم به. فالواقع لدى الخراط «هو أكثر من واقع... هو ظاهرة شديدةالاتساع، شديدة التعدد، شديدة العمق،...الواقع هو الحلم، والفانتازيا، والخيال، وظروفالظلم الاجتماعي، والصعوبات والفقر والفاقة، والامتهان،... كما يعنى حقيقةالموت، وحقيقة خبرة الحب، ولغز العلاقة مع المرأة، والتباس العلاقة مع الصديق،...كل محصلة الخبرات الحميمة التى تحتل جانبا كبيرا من ساحة حياتنا، والتى ننساهاعادة أو نحاول أن ننساها فى نشاطنا اليومي، سواء كان هذا النشاط نحو تأمينالرزق، أم نحو تأمين المكانة الاجتماعية، أو نحو السلطة، أو نحو الثروة، أو نحوالشهرة، أو ...،» فى حياة اى إنسان وفى علاقاته مع الآخرين...ومن ثم كان دأبالخراط هو النهل من هذا الواقع المتسع قدر الامكان. فجاء إبداعه مركبا من عديدالعناصر يعكس هويته: المصرية، الصعيدية/ السكندرية، والقبطية/ العربية الإسلامية،والمدينية الكوزموبوليتانية الراقية/ الشعبية، واليسارية/ الليبرالية، والكونية الإنسانية...
المحصلة أن الخراط أبدع نصوصا ثرية كتبت بلغة جديدة حية سعيا للحقيقةالمتجددة... ما يدفعنا أن نقول إننا فقدنا أديبا ابداعاته تستحق نوبل، ومثقفا كبيرا منالوزن الثقيل... ونتابع...
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة