ويبدو السجال أكثر احتداماً اليوم في فرنسا حيث تستعد منشورات «فايار» المعروفة برصانتها عادة، لإصدار ترجمة جديدة
في أحيان كثيرة تكون الصدف أفصح من ألف ميعاد. والصدفة وحدها تجعل الحديث يدور اليوم في طول أوروبا وعرضها من حول هتلر وكتابه المعنون «معركتي» - والذي ترجم الى العربية بعنوان يحاول ان يجمّله ويعطيه معنى الكفاح الشريف «كفاحي»! -. المهم، يأتي الحديث المتجدد عن كتاب هتلر هذا، والذي يمكن ان نسميه بكل بساطة «كتاب العنف والكراهية»، في وقت يزداد انتشار اليمين المتطرف وريث النازية في العديد من البلدان الأوروبية، لأسباب متنوعة يقف على رأسها اليوم بالتحديد، هذا الموقف من الإسلام الناتج عن تكاثر الأعمال الإجرامية الإرهابية التي يقترفها «داعش» وإخوته باسم الدين، مسفرة عن سقوط الضحايا البريئة مسيئة أصلاً وقبل كل شيء الى العرب والمسلمين أنفسهم بخلقها المزيد من الكراهية في العالم تجاههم، بشكل يذكّر الى حد بعيد باللاسامية التي شكلّت العصب الرئيس لكتاب هتلر. أما عودة هذا الكتاب الى الواجهة فناشئة عن ان حقوق الملكية الخاصة به قد دخلت الحيز العام بحيث صار في إمكان أي كان نشره، ما يثير مخاوف القوى المعادية للفاشية والتي بدأت تستنفر قواها الفكرية والعملية للتصدي لما قد يثيره الكتاب، في نشره الجديد، من عواصف كراهية إضافية.
> ويبدو السجال أكثر احتداماً اليوم في فرنسا حيث تستعد منشورات «فايار» المعروفة برصانتها عادة، لإصدار ترجمة جديدة إنما مع تعليقات واعتراضات قد يكون من شأنها أن تنسف أفكار هتلر من أساسها. وتستعد ثلاث أو أربع دور أخرى لإصدار طبعات جديدة أقل تعليقاً واعتراضاً، علماً بأن القوانين الفرنسية تمنع نشر الكتاب من دون تعليقات «تفضح» ما فيه من كراهية وعنصرية. وفي المقابل بدأت قوى اليسار باحتجاجها على فكرة نشر الكتاب معلنة، مثلاً، على لسان النائب الأوروبي اليساري جان - لوك ميلانشون: «نحن لسنا في حاجة الى هتلر حين يكون لدينا لوبان - زعيمة اليمين المتطرف التي حققت في الإنتخابات المحلية الفرنسية الأخيرة انتصارات ضخمة -». ونقاش مثل هذا ها هو يدور كذلك في ألمانيا. أما في ما يخصنا نحن العرب، فها هم الخائضون في النقاش الأوروبي يؤكدون ان كتاب هتلر، في ترجمته العربية، يعتبر دائماً من أروج الكتب!. ويشكل هذا بالنسبة إلينا هنا مناسبة للعودة الى الكتاب.
> «انه، في الحقيقة كتاب مضجر، لم أتمكن أبداً من قراءته»، هذا ما قاله عام 1928، عن الكتاب زعيم فاشي آخر، كان من المفروض به، ولو مجاملة، أن يدلي حول الكتاب، برأي مختلف كل الاختلاف عن هذا الرأي. كان هذا الناقد المر، بنيتو موسوليني، الذي أضاف قائلاً: «ان الأفكار التي يعبّر عنها هتلر في هذا الكتاب، ليست أكثر من كليشيهات شديدة العادية». غير ان هذا لم يكن رأي كثر من أصحاب النزعات القومية والفاشية في العالم كله، بما فيه العالم العربي، خلال سنوات الثلاثين من القرن العشرين. ومن هؤلاء وخلفائهم من لا يزال ينظر الى كتاب هتلر هذا، بتبجيل، ولا سيما في الكثير من البلدان العربية، حيث يصدر الكتاب في طبعات متلاحقة، ويقرأ على نطاق واسع من جانب أصحاب الفكر القومي، والحزبيين الذين لا يخجلهم أبداً أن أحزابهم، انما تأسست أواسط القرن العشرين، مستندة الى هذا الكتاب نفسه، لا الى التاريخ العربي، الذي كثيراً ما نادت بأنها تنتمي إليه. فالحقيقة ان «معركتي» كان دائماً كتاباً مقدساً لدى جماعات وتيارات وزعامات خبأت تفضيلها هذا خلف أقنعة كثيرة...
> صدر كتاب «معركتي» للمرة الأولى، في جزءين بين عامي 1925 و1926، وأهداه مؤلفه الى ديتريش اكهارت، مشيراً الى ان الكتاب هو سيرة ذاتية. لكنه في الحقيقة كان أوسع من ذلك بكثير. كان كتاباً في الحقد والكراهية وتهديداً مباشراً للإنسانية. لكن الناس لم يأخذوه على هذا المأخذ في البداية. ذلك ان هتلر نفسه لم يكن يعتبر خطيراً، ولا حزبه كان في ذلك الحين يبدو حزباً مؤهلاً لاستلام السلطة في أي مكان في العالم.
> «معركتي» هو، قبل أي شيء آخر، كتاب ديماغوجي من الدرجة العاشرة. مزج فيه مؤلفه بين سيرته الذاتية واحتقاره الشعوب الأخرى وتأليه العنصر الآري (الذي هو أصل الشعب الجرماني). ذلك ان السمة الأساس في هذا الكتاب، الذي يشكّل في جوهره برنامج عمل لقلب العالم والسيطرة عليه، هي تلك التي تصنف الشعوب والأمم درجات درجات، مع وضع «الأمة» الآرية في أعلى المستويات، ثم الانحدار حتى الوصول الى القاع الأسفل حيث اليهود والغجر، والفئات والمجموعات المشابهة لهم. وفي مثل هذا التصنيف، كان المستقبل واضحاً: يجب أن يسود فيه العرق الآري، مزيلا بقية الأعراق في طريقه، إما من طريق السيطرة عليها، أو من طريق ازالتها أصلاً من الوجود، أو حتى من طريق إرهابها ودفعها الى الإرتحال الى مناطق أخرى من العالم (بما في ذلك الاتفاقات التي عقدها النازيون لاحقاً مع زعماء اليمين الصهيوني المتطرف والتي نصت على «شراء» هؤلاء لليهود الألمان الأثرياء، لإرسالهم الى فلسطين، ما سهّل كثيراً إنشاء الدولة العبرية وأمدها بخبرات ورساميل وما شابه).
> صحيح ان كتاب «معركتي» لهتلر فيه جوانب كثيرة وفصول وصفحات متنوعة، غير ان هذا الجانب هو الأساس فيه، وهو الذي انتقل درساً ثميناً، الى قوى التطرف التي ساندت هتلر في العالم أجمع. ولعلنا هنا لا نكون في حاجة الى المضي في الحديث بالتفصيل عن كيفية انتقال هذا الكتاب من نص يقرأه محازبو هتلر، الى كتاب يسجل أرقاماً قياسية في البيع، في المانيا ثم في العالم أجمع... إذ ما إن مرت تسع سنوات بين تاريخ صدور الجزء الأول من الكتاب (1925) وتاريخ وصول هتلر ونازييه الى السلطة في برلين (1933) حتى كان قد بيع من الكتاب نحو ربع مليون نسخة. ولكن خلال السنوات التالية، وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية ونهاية هتلر بالتالي، وصلت أرقام المبيعات، في الأصل الألماني وحده الى عشرة ملايين نسخة (من بينها تلك التي كانت توزع مجاناً على الجنود الشبان، والنسخ الأكثر فخامة التي كانت تهدى الى كل عروسين جديدين... فتدفع الدولة الألمانية ثمنها الى هتلر، ما جعله يراكم ثروة).
> خلال تلك الفترة راح الكتاب يترجم الى الكثير من اللغات، وفي مقدمها الانكليزية، كما عكف هتلر على وضع ملحق له تصور فيه انه مع حلول العام 1980، ستندلع حرب نهائية في العالم بين الولايات المتحدة الأميركية من ناحية، وتحالف يضم الإمبراطورية الألمانية، (وقد سيطرت على أجزاء كثيرة من العالم ومحت البولشفية من الوجود)، والإمبراطورية البريطانية. ولئن كان هذا الكتاب الملحق قد مر مرور الكرام، فذلك لأن قراء هتلر المعجبين توقفوا دائماً عند «السحر» الذي كان ولا يزال يمثله بالنسبة اليهم نص «معركتي»، الذي قال فيه هتلر صراحة ان ما فتح عينيه على واقع العالم انما كان الصهيونية التي نبهته بين أمور أخرى الى ان المرء لا يمكنه أن يكون ألمانياً ويهودياً في الوقت نفسه، وكذلك «وحدة الحال» بالنسبة اليه بين البولشفية واليهودية، باعتبارهما وجهي عملة واحدة، نابعة من الخطر اليهودي العالمي، الذي يتمثل في تلك «المؤامرة الكونية» للسيطرة على العالم، والتي نراها ماثلة في كتاب آخر، لا شك كان في دوره مرجعاً من مراجع هتلر الرئيسة «بروتوكولات حكماء صهيون»، كما كان ولا يزال جزءاً من «الثقافة القومية العربية»!
> كما أشرنا، يتألف «معركتي» من جزءين، يتحدث هتلر في أولهما عن طفولته وتربيته والأوضاع السياسية التي رصدها في مطلع شبابه في فيينا ثم في ميونيخ، وصولاً الى «بدايات نشاطي السياسي» وتاريخ «حزب العمال الألماني» وصولاً الى نظرات أولية الى «الأمة والعرق»، وبدايات نمو الحزب النازي. أما في الجزء الثاني فيتحدث هتلر عن «فلسفة» النازية وحزبها والدولة والمواطنين وشخصية الدولة الشعبية. ثم مرة أخرى عن «نضالاته» على الصعيد الكوني مفرداً فصلاً «ظريفاً» يؤكد فيه ان «الإنسان القوي يكون أقوى حين يكون وحيداً»... وفي كلمة أخيرة هنا، قد يكون ملائماً أن نقول ان هذا النص، لولا انه يحمل توقيع هتلر، وأصبح جزءاً من تاريخ هذا الديكتاتور، لما كان أحد التفت اليه، لأنه في نهاية الأمر ليس أكثر من خليط أفكار وآراء ونصوص، لا يجمع بينها سوى حقد دفين على الإنسانية جمعاء.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة