الشيء الوحيد المفهوم أن جينات الحرب الباردة لم تعد مقبولة اليوم
روما-جلس سيرجى لافروف على مقعده فى مواجهة جمهور رفيع المستوى فى جلسةخاصة بمنتدى حوارات البحر المتوسط فى العاصمة الإيطالية يوم الجمعة الماضىولسان حاله «هذا ما تجنيه أوروبا من التخبط والسير وراء السياسة الأمريكيةالغامضة».. كان الجمهور فى قاعة الفندق التاريخى ينتظرون لافروف وبما يليقبدولة محورية تحرك الأحداث اليوم فى الشرق الأوسط وتتدخل لوقف السياساتالحمقاء التى كادت تعصف بدول كبرى فى الإقليم وفى محاضرة لمدة ربع الساعة لقنالرجل صناع السياسات فى الدول الغربية دروساً فى فهم ما يجرى فى المنطقة دونحسابات ضيقة أو مراوغات خائبة! لحظة التنوير فى خطاب لافروف عندما ارتفعتنبرة صوته قائلا: «لا يمكن ارتكاب الخطأ، ألا وهو الإيمان بأنه يمكن استخدامالإرهابيين لأغراض سياسية، على سبيل المثال، لتغيير النظام فى دمشق، وبعد ذلكإبعادهم عن اللعبة.
هم يقبلون الدعم المالى والعسكرى وغيره، لكنهم يمكن أن ينقلبواعلى من يدعمونهم فى أى لحظة يعتبرونها مناسبة.
رأينا ذلك فى أفغانستان فى حالةالقاعدة، وسنرى ذلك مرة أخرى».
أقصد بلحظة التنوير حالة الانتباه التى عمتالقاعة عندما قال الوزير الروسى الجملة السابقة، وتشعر أن أوروبا، خاصة بعد حادثباريس، تتحرك يوما بعد أخر فى إتجاه الوثوق فى الرؤى التى ترفض دعم الميليشياتالمسلحة فى سوريا تحت زعم الحرب على بشار الأسد ولكنها تواجه بعقبة الشريكالأمريكى الذى لا يحدد أين يقف فى الحرب على الإرهاب وعدم وجود إتفاق علىتعريف الجماعات الإرهابية نتيجة سيطرة سياسة «توظيف الإرهابيين لأغراضسياسية» فى ممارسات الولايات المتحدة وإعتبارهم رصيدا لا يفنى فى الشرق الأوسط.
أمام الأمم المتحدة العام الماضي، قال لافروف إن واشنطن لا يمكنها تغيير الحربالباردة فى «النظام الجيني» الخاص بها وتثبت الأحداث فى الشهور الأخيرة صدقالمقولة حيث تلتفت القيادة الأمريكية إلى ما يتفق مع مصالحها التى تحركها تحالفاتضيقة للغاية ومصالح دول تدفع لجماعات المصالح التى ترسم أجندة النقاش فىواشنطن بينما لا تلتفت للنتائج التى خلفها التدخل الكارثى فى الدول التى أسقطتديكتاتوريات ثم لم تحصد شعوبها سوى الفراغ.
أكثر من مسئول أوروبى تحدث أمام «حوارات المتوسط» عن خطأ المشاركة فى الحربعلى ليبيا فى غياب كامل لمؤسسات الحكم التى كان يمكن أن تملأ الفراغ بعد سقوطمعمر القذافى ومن بعدها ترك الأوروبيون الساحة لجماعات الفوضي. ومن قبل الحالةالليبية، سقطت العراق فى الفوضى والطائفية ثم حل الدور على سوريا فى «الحربالغريبة» كما سماها لافروف فى روما ويكون السؤال المنطقى هو: لماذا لم يعتبرالأمريكيون والأوروبيون من كارثة العراق بعد أن أثبتت عملية هدم مؤسسات الدولة أنالفوضى هى البديل الأقرب؟
لم يعد تهديد روسيا للمصالح الأوروبية، وفقا لتصورات العواصم الأوروبية بعد أزمةأوكرانيا، بالدرجة نفسها التى كانت عليه قبل عام وهو ما يعنى أن المصالح تتقاربأو تتباعد عند نقطة معينة وقد ظهرت مجلة «لبوينت» الفرنسية الشهيرة بغلاف الأسبوع الماضى يحمل صورة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وتحتها عنوان «صديقناالجديد»، وبالمثل كانت حفاوة الإيطاليين بالوزير لافروف مؤشراً على التفكير الجديد فىأوروبا وقد قالت وزيرة الدفاع الإيطالية خلال أعمال المنتدى أن التهديد الأكبر للقارة الأوروبية يأتى اليوم من الجنوب وليس من شرق أوروبا (أوكرانيا).
هناك أفكار كثيرة بعضها يحتاج إلى نقاش مستفيض فى موضع آخر عما دار منمناقشات صريحة فى روما بين مسئولين كبار وباحثين ومديرين للشركات الكبرى فى منطقة البحر المتوسط لكن الإرادة السياسية فى العموم هى المشكلة الأكبر التىتواجه صانع القرار الأوروبى فى مواجهة سيل من التداعيات التى لم يكن محسوب حسابها قبل عام واحد-
على حد قول مفوضة العلاقات الخارجية الأوروبية فريدريكاموجرينى فى حفل العشاء الختامي.
بعض مما جرى فى منتدى روما، أن أوروبا مازالتتستكشف كيف تعيد بناء العلاقة مع دول جنوب المتوسط بما يحميها من سيلالمهاجرين ويمنع الأوضاع الداخلية فى بعض المجتمعات من الدخول فى حرب أهلية وثقافية يمكن أن توسع الهوة وتزيد من خطورة الخلايا النائمة التى تنمو بشكل طبيعىفى بعض الأحياء المنفصلة عن المجتمع الأوروبى المحيط بها. أوروبا فى حيرة منأمرها، تبحث عن توجه شامل فى الإقليم وتخشى من عقلية الحرب الباردة الأمريكية..
تراهن على التعاون الإقليمى بينما يتعثر التعاون بسبب غياب الحكومات، الشركاءالطبيعيين، فى بعض البلدان..
تلوح بالعصا فى وجه جماعات التطرف وتخاف من غضب الداخل..
الشيء الوحيد المفهوم أن جينات الحرب الباردة لم تعد مقبولة اليوم!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة