أعترف أن النظام السياسى فى مصر بعد يوليو 2013 أصبح يمثل تحديا لعلماء السياسة فى العالم أجمع.
أعترف أن النظام السياسى فى مصر بعد يوليو 2013 أصبح يمثل تحديا لعلماء السياسة فى العالم أجمع، فهو لا يندرج بسهولة تحت أى من تصنيفاتهم المعهودة. ودعوكم من التصنيف الشائع بين نظم ديمقراطية وأخرى سلطوية، أو نظام جمهورى وآخر ملكى، أو حتى مدنى وعسكرى، لأن نظامنا تفوق على كل هذه النظم، ففى كل منها قواعد معروفة لحدود كل سلطة، أين تبدأ وأين تنتهي؟، وما هو مجال كل سلطة، تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، مركزية أو محلية؟، كما أن كيفية تعامل كل منها مع الأخرى واضحة، وقد أخذت معظمها بنصيحة المفكر الأسكتلندى آدم سميث ألذى ينسب إليه أنه رائد علم الإقتصاد، فبصرف النظر عن أنه دعا إلى إطلاق الحرية لقوى السوق التى تصور فيها الحكمة التى تمكنها من تحقيق خير المجتمع عندما يسعى كل فرد لمصلحته الخاصة، وهو أمر قد نتفق أو نختلف حوله، ولكنه رأى أيضا أن تقدم الأمم يقاس بدرجة التخصص وتقسيم العمل بين كل العاملين فيها، فتخصص كل فرد فيما يجيده سيعود عليه بأقصى النفع، وعلى المجتمع أيضا، وينطبق ذلك على مؤسسات الدولة، فإذا ما انقطعت كل منها لمهمتها الأساسية فإنها ستجيدها، أما إذا تصدت واحدة منها لأداء كل مهام المؤسسات ألأخرى، فلن يقدر لها أن تنجح لا فى أداء هذه الوظائف الأخرى، بل وربما تخفق فى أداء مهمتها الأساسية، وقد انصرفت عنها لكل هذه المهام الأخرى، وسوف يتراجع أداء غيرها من المؤسسات، فلن تهتم بأداء وظيفتها الأصلية، طالما أن مؤسسة أخرى تتولى عنها أداء وظيفتها برضاء هذه المؤسسة أو رغما عنها.
وقد غمرتنا الأنباء طوال الأسبوع الماضى بأمثلة عديدة على تلاشى هذه الحدود بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، وداخل السلطة التنفيذية بين رئيس الدولة ورئيس الوزراء، بل أحيانا بين رئيس الدولة وبعض الوزراء، وبين بعض أجهزة الجيش والشرطة ووزارة التموين والقطاع الخاص، وكذلك بين القضاء المدنى والقضاء العسكرى، وكل ذلك يشكل بكل تأكيد مادة ثرية لتأمل علماء السياسة لكى يروا حصيلة تلاشى الحدود بين مؤسسات الدولة فى مصر، وهل يؤدى ذلك إلى تحسن أداء أجهزة الدولة عموما مما يشكل دحضا لمقولات هذا المفكر الأسكتلندى، أم أن أفكاره التى لم يشكك فيها أحد طوال قرنين ونصف قد عفا عليها الزمن.
***
طبعا أنتم تعرفون أن رئاسة الدولة فى مصرمنذ يوليو 2013، وهى قطب السلطة التنفيذية، قد استراحت لكونها تمارس سلطة التشريع فى غياب البرلمان، ومن ثم فقد أفرطت فى إصدار التشريعات، وتجاوزت بذلك شرط كون مثل هذا التشريع فى غياب البرلمان هو مما تقتضيه الضرورة، ولذلك بلغ عدد القوانين التى أصدرها كل من الرئيس المؤقت المستشار عدلى منصور والرئيس عبدالفتاح السيسى أربعمائة وتسعة قوانين، تمثل كلها تحديا لمجلس النواب القادم، الذى عليه أن يصدر حكمه بشأنها فى فترة لا تتجاوز أسبوعين، والكثير من هذه القوانين لم تكن تقتضيه الضرورة، ومنها ذلك القانون الذى أصدرة الرئيس السيسى منذ أسبوعين والذى منح القوات المسلحة سلطة استخدام الأراضى التى لم تعد لها حاجة بها فى إقامة مشروعات استثمارية وحدها أو بالتعاون مع القطاع الخاص والشركات الأجنبية، وبالتأكيد لم تكن هناك حاجة ملحة لإصدار هذا القانون قبل أسابيع قليلة من انعقاد مجلس النواب. ولا يغيب عن ذهن القراء أن المجلس النيابى فى الدول التى تأخذ وجود مجلس منتخب من الشعب مأخذ الجدية هو سيد قراره على الأقل فى اختيار رئيسه ومن يشرف على جهازه الإدارى، ولكننا نجد أننا فى مصر نستكثر على خمسمائة وستين من النواب المنتخبين أن يقوموا هم بانتخاب رئيسهم، ويستسلم الجميع لأن رئيس المجلس الجديد ربما يكون واحدا من النواب الثمانية والعشرين الذين يعينهم رئيس الجمهورية. لاحظ أنه لا معنى لتعيين هؤلاء النواب أصلا طالما تكفل القانون الانتخابى بتحديد حصة لكل الفئات التى يقال عنها أنها فئات مهمشة مثل الشباب والنساء والمسيحيين والعمال والفلاحين وذوى القدرات الخاصة والمصريين فى الخارج، كما أنه يصعب فهم لماذا يقوم رئيس السلطة التنفيذية بتعيين رئيس السلطة التشريعية الذى يفترض أنه يقود هذه المؤسسة التى مهمتها الأولى رقابة السلطة التنفيذية. كما أن الرئيس يرى نفسه وصيا على الوطن، ويدخل فى ذلك وصايته على السلطة التشريعية، ولذلك فقد أوردت الصحف أنه فى لقائه الأخير مع رئيس مجلس الشيوخ فى البرلمان اليونانى قد تحدث معه فى شأن العمل على توثيق العلاقة بين البرلمان اليونانى ومجلس النواب المصرى. والأغلب أن تلك حالة فريدة من تولى رئيس السلطة التنفيذية مهمة تدخل فى صميم اختصاصات السلطة التشريعية. أليس من المحتمل نظريا على الأقل أن يكون لمجلس النواب فى مصر رأى آخر عندما يجتمع فلا تكون هذه المسألة مثلا واحدة من أولوياته، وهذا هو شأنه هو على أى حال. وقد شجع ذلك أجهزة أخرى فى الدولة على أن تقحم نفسها فى أمور ليست من إختصاصها على الإطلاق، ومنها تدخل أجهزة الأمن فى « نصح» النواب المنتخبين بأن ينضموا إلى تجمع النواب الذين شاؤا أن يسموا أنفسهم «ائتلاف دعم الدولة»، وكأن من لا ينضم لهم سيكون بحسب هذه التسمية معاديا للدولة. ولعل ذلك هو ما فهمته أجهزة الأمن الوطنى التى سارعت بنصح النواب المنتخبين بالتخلى عن انتماءاتهم الحزبية والانصهار فى بوتقة هذا التجمع. وهكذا لا تريد أجهزة الأمن، وهى قلب السلطة التنفيذية فى تعاملها مع المواطنين، أن تترك لنواب الشعب أن يختاروا من سيضمون إليه من النواب الآخرين فى ممارستهم لمهامهم. طبعا فى ظل هذه الظروف تبدو مسألة قيام وزير الشئون القانونية بتغيير أمين عام مجلس النواب قبل أيام من إنعقاد المجلس محدودة الأهمية إلى جانب تنحى المجلس عن حقه فى انتخاب رئيسه والحرية التى يشعر بها ضباط الأمن الوطنى وهم «ينصحون» أعضاء المجلس بمن يؤيدون فى المجلس ومن يتخلون عن الارتباط به.
***
ولا يقتصر أمر تلاشى الحدود على العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بل يمتد كذلك داخل السلطة التنفيذية ذاتها وعلى أعلى مستوياتها. لايمكن أن ينكر أحد إخلاص الرئيس السيسى فى العمل لصالح الوطن، وتكريسه كل جهده لتحقيق ذلك. ولكن المتابع لنشاط الرئيس فى الداخل والخارج يشعر أن الرئيس لا يريد لأحد من أقرب معاونيه أن يساعده فى تولى هذه المهام الجسام. فالرئيس السيسى يجتمع بالوزراء فى غياب رئيس مجلس الوزراء. طبعا من المسلَّم به أن سلطة الرئيس تكون سلطة مباشرة على وزراء الدفاع والداخلية والخارجية فى النظام المصرى شبه الرئاسى لأنهم يقدمون تقاريرهم له وحده، وإذا شاءوا فإنهم يبلغون رئيس الوزراء بما يتعين عليه معرفته منهم، ولكن الرئيس يجتمع بغيرهم من الوزراء، أخيرا مثل وزراء التعليم والرى والنقل ووزراء آخرين، ولأ أظن أن الرئيس يعتقد أن رئيس الوزراء مقصر فى هذه المهام، ولكن أليس الواجب الأول لرئيس الوزراء أن يتابع مهام كل الوزراء؟، وأن يكون تدخل رئيس الجمهورية هو عندما تكون هناك أزمة تتعلق بواحد من هذه الملفات، ولكنه يناقشها فى حضور رئيس الوزراء؟ لا يعنى ذلك الدعوة لتقليل سلطات الرئيس، ولكن أن يتفرغ الرئيس للمهام الأخطر فى صنع السياسة الخارجية والإشراف على الأمن والدفاع ووضع التوجهات العامة للسياسات الداخلية تاركا متابعتها لمجلس الوزراء ككل وعلى رأسه رئيس الوزراء. بل إن الرئيس يثقل على نفسه فى رحلاته الخارجية ويلتقى هو بنفسه مع وزراء وكبار رجال أعمال فى الدول التى يزورها. ويسعد ذلك بكل تأكيد هؤلاء الوزراء ورجال الأعمال الأجانب الذين يلتقى بهم الرئيس، فهم لا يلتقون إلا بنظرائهم، ولكن الرئيس أيضا فى هذه اللقاءات لا يصطحب معه الوزراء المختصين، مثل وزير الدفاع عندما التقى بوزيرى الدفاع والداخلية الفرنسيين فى رحلة باريس ثم لاحقا بوزير الدفاع اليونانى فى رحلة أثينا. لا أعرف ماذا يدور بعد ذلك. هل تكلف الرئاسة وسعها بإبلاغ الوزراء المختصين بما دار فى محادثات الرئيس مع من التقى بهم من الوزراء الأجانب؟ وألا يكون من الأوفق أن تتم لقاءات الرئيس فى حضور وزرائه المسئولين عن هذه الملفات لكى تنساب المعلومات بسهولة وسرعة ويسر داخل الحكومة على أعلى مستوياتها.
ناهيكم أعزائى القراء عن الاعتبارات البروتوكولية فى كل ما سبق، ولكن هل ترون أداء سلطات الدولة فى مصر وقد تلاشت الحدود فيما بينها يكذب مقولات رائد علم الاقتصاد عن أهمية التخصص وتقسيم العمل؟، أم أن ما قاله فى أواخر القرن الثامن العشر هو حكمة أثبت الزمن صحتها، ومن المفيد لأجهزة الدولة فى مصر أن تأخذ بها؟.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة