(1)
يتربى الحاكم فى العالم العربى على أنه «لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه»؛ فبعد كل قرار يتخذه ليس مطلوبا منك أن تعمل عقلك فى تقييمه أو النظر فى جدواه.. بل المطلوب فقط هو البحث عن الحكمة الكامنة من ورائه.. فكل إشارة من إشاراته هى أمر واجب النفاذ دون نقاش؛ وكل لفتة من لفتاته لها 100 معنى ومغزى يتوجب الاجتهاد فى البحث عنها؛ فهو الزعيم.. المؤمن.. صاحب الحكمة الواسعة والنظرة الثاقبة.
بمهارة فائقة يحول «كهنة آمون» الحاكم إلى القارئ الوحيد الذى تكتب له الصحف.. العنوان الأول فى نشرات الأخبار.. صاحب كل انتصارات عصره.. حتى لو كانت فى كرة القدم «زى ما قال الريس.. منتخب مصر كويس».. يحذف الكهنة من قواميس اللغة كلمة «لا»؛ فيصبح المجد دوما لمن قالوا:«نعم».
فى تاريخنا القريب لا يوجد حاكم بالغ جدا فى تصوراته عن نفسه كما الرئيس أنور السادات؛ فهو «الرئيس المؤمن» و«رب العائلة المصرية» و«قائد دولة العلم والإيمان» و«رجل الحرب والسلام»، وبقدر الانعطافات الحادة التى عرفتها السياسة المصرية فى عهده داخليا وخارجيا بقدر بروز رجال قالوا له: «لا» من بين جوقة من قالوا:«نعم».
(2)
من أبرز الذين قالوا للسادات: «لا»، وزير الخارجية التاريخى، إسماعيل فهمى، الذى شغل هذا المنصب المهم فى فترة عصيبة من عمر الوطن (1973 ــ 1977)، فإيمانه بأن الرجال أدوا واجبهم على جبهات القتال كما يجب أن يكون فى أكتوبر 1973م، وأنهم حققوا لمصر والعرب انتصارا كان من الممكن استغلاله فى انتزاع الكثير من الحقوق المصرية والعربية على طاولة التفاوض، جعله لا يتردد فى الاستقالة عندما وجد «رب العائلة المصرية» يقاتل للبحث عن حل منفرد ومجد شخصى، بعد أن كانت الأجواء مهيأة لتفاوض عربى جماعى فى مؤتمر جنيف للسلام الذى كان مقررا له ديسمبر 1977م.
استقال الوزير الذى يحترم نفسه ومبادئه بعد إصرار «الرئيس المؤمن» على الذهاب إلى القدس، وإلقاء خطبة أمام الكنيست؛ بعد أن حاول منعه من ذلك بأن اقترح عليه زيارة المدينة المقدسة فى إطار مؤتمر دولى تحضره الدول الكبرى والأمم المتحدة؛ فلا تفقد مصر بذلك مكانتها فى عالمها العربى، لكن السادات كان مصرا على معانقة الكاميرات وحده!
استقال فهمى ولم يفكر قط فى أن هذا الإجراء سيحرج الرئيس، الذى هو المعادل الموضوعى للدولة والوطن فى بلادنا.. وتاليا فإن الخروج عن مشيئته يعنى ارتكاب جريمة «الخيانة العظمى» مع سبق الإصرار!
وعلى نفس النهج ولنفس الأسباب تقدم السفير محمد رياض وزير الدولة للشئون الخارجية فى ذلك الوقت باستقالته أيضا، بعد أن عرض عليه السادات منصب وزير الخارجية؛ فالمبادئ عند هؤلاء الرجال لا تتجزأ ولا تقبل القسمة على اثنين.. إما الرئيس وإما الوطن فى هذه الحالة.
(3)
فى نفس يوم قبول استقالة فهمى ورياض (17 نوفمبر 1977)، عين السادات بطرس غالى وزيرا للدولة للشئون الخارجية، وزار القدس بعدها بيومين، وظل منصب وزير الخارجية شاغرا إلى أن شغله محمد إبراهيم كامل فى 24 ديسمبر 1977، وكان زميلا للسادات فى السجن فى قضية اغتيال أمين عثمان فى الأربعينيات.
خاض كامل المفاوضات التى جرت مع إسرائيل برعاية أمريكية فى «كامب ديفيد»، لكنه استقال عشية توقيع الاتفاقيات فى 16 سبتمبر 1978؛ لأنه رأى أن «ما قبل به السادات بعيد جدا عن السلام العادل والشامل»، كما أن هذه الاتفاقيات «لم تشر بصراحة إلى انسحاب إسرائيلى من قطاع غزة والضفة الغربية ولعدم تضمينها حق الشعب الفلسطينى فى تقرير مصيره». بحسب ما ذكره كامل فى كتابه «السلام الضائع فى اتفاقيات كامب ديفيد».
رحم الله من تجاسروا على أن يقولوا: «لا» فى وجه ما اعتقدوا أنه ضد مصلحة الوطن.. ورحم الله السادات الذى لم يسئ إلى أى منهم.. من قال: «لا».. فلم يمت.. وظلّ روحا أبديّة الألم!
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الشروق المصرية وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة