هل هنالك سلاح أقدر على فعل ذلك من الإعلام الذي أخذ طابعًا عولميًّا فيما اصطُلح عليه بالعولمة الإعلامية التي تعني ضغطًا للزمان والمكان؟
أحيانًا عندما أتأمل في السيل العارم للتطورات التكنولوجية التي تتقاطر علينا يوميا بل في كل ساعة ولحظة، يقفز إلى ذهني مباشرة الباحث الكندي "مارشال ماكلوهان" الذي أعلن في نهاية الستينيات تحول العالم إلى قرية صغيرة، وأتساءل: تُرى كيف كان "مارشال" سيصف عالم اليوم الذي يشهد تطورات مذهلة في تكنولوجيات الإعلام والاتصال كان بعضها يعد ضربًا من الخيال في عهده؟ وحتى مصطلح الموجة أو الموجات الذي استعمله "ألفن توفلر" في كتابه الشهير "الموجة الثالثة" أصبح متجاوزًا خصوصًا مع المرحلة الثالثة التي وصفها في تطور البشرية، إذ إن المرحلة الرقمية تعدّت وصف الموجة وأصبحت بها من الضخامة والزخم ما يؤهلها لأن تكون تسونامي هائلًا يزحف على حياتنا اليومية بكل تفاصيلها.
بفضل هذه التطورات تلاشت قيمة الحدود الطبيعية التي لطالما فصلت بين الشعوب والدول، وأصبح العالم امتدادًا مفتوحًا دون عوائق كما ذهب إلى ذلك "توماس فريدمان" في كتابه "العالم مسطح" (The world is flat)، وأصبح بالإمكان تجاوز حواجز الزمان والمكان والتسلل إلى القلاع الهوياتية المنيعة، ونشر القيم بسلاسة عبر العالم لندخل في عصر العولمة، أين يتم التفاعل على نطاق عالمي وسيلته في ذلك الآلة الإعلامية الضخمة التي لا تعترف لا بالحدود الجغرافية ولا بالاختلافات الثقافية، مستعينة بالإنترنت وشبكات الإعلام العملاقة (القنوات الفضائية، الإذاعات الدولية، الصحف والمجلات ودور النشر وشركات صناعة السينما) ذات الموارد المالية التي تتجاوز مداخيلها كثيرًا من الدول، لتكون العولمة الإعلامية أحد مظاهر وأدوات العولمة في نفس الوقت؟
وهل هنالك سلاح أقدر على فعل ذلك من الإعلام الذي أخذ طابعا عولميًّا في ما اصطُلح عليه بالعولمة الإعلامية التي تعني ضغطًا للزمان والمكان، وتركزًا لملكية وسائل الإعلام في أيدي فئة رأسمالية فاحشة الثراء وواسعة النفوذ عالميا، أمثال "روبرت ميردوخ" و"سيلفيو بيرلسكوني" و"برتلزمان" و"والت ديزني" سابقًا وغيرهم، وجميعها تصب في خدمة المشروع العولمي الثقافي الغربي كجزء من عقيدة الهيمنة على الشعوب، وهي الهيمنة التي لا تتحقق بالجوانب المادية فقط سواء كانت قوة عسكرية أو تبعية اقتصادية، بل تتطلب سيطرة من نوع آخر أخطر من الأولى ألا وهي عملية الإخضاع الفكري والثقافي، التي تتولاها الترسانة الإعلامية بنشرها لقيم وعرضها لنمط حياة في أرقى صور الإغراء والتضخيم، في مقابل تشويه صورة الآخر وإبراز قيمه في ثوب القيم البالية والمتخلفة، من خلال البث اليومي لملايين الرسائل الحاملة لقيم تنافي الموروث الأصيل للمجتمعات المستهدفة، ومحاولة جعل تلك الوسائل الإعلامية مصدرا بديلا للقيم التي كانت تقدمها المصادر الأساسية والأصيلة للقيم كالدين والأعراف والتقاليد والأسرة والمدرسة؟
والهدف هو نشر نمط ثقافي واحد يمثل قيم الأقوى ويعكس تصوره لما يجب أن يكون عليه العالم، وكما جاء في مؤتمر السياسات الثقافية من أجل التنمية الذي نظمته "اليونسكو" في السويد سنة 1998، فمن أخطار العولمة ارتباط المفهوم الثقافي فيها بفكرة التنميط (Uniformalisation) التي تهدف إلى نشر نمط قيمي واحد عبر العالم، ووسائل الإعلام هي أداة تنفيذ ذلك ودورها هي السيطرة على ما يسميه مؤيد الحديثي "المخيال" (L’imaginaire)، الذي يتولى وظيفة منح الفرد والمجتمع عبر ما يسمى بـ "المخيال الجماعي" هوية مميزة في طريقة التفكير وأسلوب العيش، والسيطرة على ذلك المخيال يسمح بالتحكم في منحى تفكيره وتوجيهه نحو النمط الثقافي الذي تريده الجهات الواقفة وراء إمبراطوريات الإعلام العالمية الغربية، وفي نفس السياق ذهب المفكر المغربي المرحوم محمد عابد الجابري، لتأكيد أن الهدف النهائي للعولمة هو فرض نمط ثقافي واحد والسيطرة على الوعي والإدراك لإخضاع النفوس، وتعطيل فاعلية العقل، وتكييف المنطق، والتشويش على نظام القيم، وتوجيه الخيال، وتنميط الذوق، وقولبة السلوك.
إنها قيم الرأسمالية الغربية الهادفة إلى الربح وتعظيم الثروة وغرس ثقافة الاستهلاك التي سادت المجتمعات الغربية طويلا في صلب بقية المجتمعات، وجعل العالم ككل سوقا كبيرة لترويج منتجات الشركات متعددة الجنسيات سواء كانت سلعا مادية وخدماتية أو الأخطر من ذلك سلعًا ثقافية وفكرية (أخبار، برامج تليفزيونية، موسيقى، أفلام، أطروحات فكرية وغيرها)، في إطار ما أصبح يُعرف بتسليع الثقافة أو صناعة الثقافة اعتمادًا على التقدم التكنولوجي الذي أفسح المجال للصورة بما لها من قوة تأثير لتعوض الحرف والكتابة في عالم ما بعد الثقافة المكتوبة أو عالم ما بعد المكتوب، فأقطاب العولمة الهادفون إلى الربح يدركون أن الوصول إلى الجيوب إنما يمر عبر السيطرة على العقول لضمان رواج المضامين الاقتصادية والفكرية والترفيهية، والجابري يؤكد ذلك بقوله: "إن البشر في كل مكان، القادرين على الاستهلاك، توحد بينهم وتجمعهم سلع وبضائع ومنتجات تخلق فيهم ميولا وأذواقا ورغبات مشتركة، ترفع من مستوى الاتفاق الثقافي في ما بينهم، وتدريجيًّا تجرد ثقافتهم من هويتها وخصوصيتها وتلبسها ثوب الثقافة الاستهلاكية الجديدة".
يتم اليوم عبر ساعات طويلة من البث والإعلانات والصور إعادة تشكيل إدراك ووعي ومخيال شعوب العالم وإضعاف مناعتها الثقافية وإخراجها تدريجيا من دائرتها الهوياتية، كي تتشكل بيئة ملائمة لتقبل القيم الغربية التي كانت تعتبر دخيلة ومناهضة للقيم الأصيلة لتلك المجتمعات سابقا، لكنها تتسرب إليها اليوم بمرونة وبهدوء ولكن بعمق، إلى الحد الذي يجعل ممن يملك يتهافت لشراء منتجات كبريات الشركات العالمية وعلى مطاعم الأكلات العالمية، ويجعل ممن لا يملك يتمنى لو أنه يملك فقط كي يستمتع بوجبة في محلات "ماكدونالدز" أو يرتدي ماركات عالمية، فيتخلى الشاب الهندي المترف في مومباي عن الأطعمة المتبّلة بالكاري والشاب الياباني عن السوشي، ويلبس الطفل الإفريقي الهارب من الحرب الذي صوّرته ذات مرة وسائل الإعلام قميصًا عليه شعار "كوكاكولا"، فحتى في عز الحرب لم تصله مساعدات أو قطعة خبز أو خيمة يأوي إليها ولكن الدعاية والسياسات الترويجية ضمنت ظهورها في واقع ذلك الصبي البائس المعلق بين الموت والحياة، لقد تم اختزال القيمة الإنسانية إلى قيمة سلعية، بغزو الصيغة الاستهلاكية مجمل الظواهر الحياتية للمجتمع وتحوله إلى صورتها، وتحولها إلى إنتاج قيم استعمال كما قال المجري جورج لوكاش، وهي قيم مادية ومنفعية خاوية من الروح والهدف والقيمة والجذور الثقافية، مما يتسبب في إلغاء الخصوصيات والهويات وخلق "عالم اللا ثقافات" كما أكد الفرنسي بول فيريليو.
نحن في عالم تحولت فيه الثقافة من فكر إلى سلعة ومن قيمة إلى ثمن، فأصبح والت ديزني المعلم الأكبر الذي يربّي أبناءنا نيابةً عنّا بإنتاجاته الكرتونية والسينمائية والترفيهية معلنًا نهاية التربية وبداية التمييع، وتحولت فيه المصادر الأساسية للقيم كالأسرة والمدرسة والدين إلى رموز للتخلف والرجعية أمام زحف الإنترنت وفضاءات التواصل الافتراضي وبرامج التسلية التي لا تقدم غالبًا أي قيم نافعة، وتحولت فيه أخبار انتقالات اللاعبين وتبني مادونا وأنجيلينا جولي أطفالًا ملونين ومداخيل النجوم وتفاصيل ما ارتدوه في حفلات الأوسكار، إلى مجالات استقطاب أكثر رواجًا وتأثيرًا واهتمامًا من أخبار المجازر في رواندا، واضطهاد أقلية الروهينغا في بورما، ومعاناة ملايين اللاجئين السوريين، والاحتباس الحراري، ونقص الغذاء وغيرها من القضايا المصيرية.
إن كنا جميعا ننتمي إلى عالم واحد جعله الله موطنًا للتنوع الثقافي، فلن يستقيم الأمر إن حاولت أي جهة مهما كانت قوتها ونفوذها وأسلحتها أن تفرض نمطها القيمي على حضارات وثقافات أخرى أعرق منها في تجربتها الحضارية وخبرتها التاريخية، وسواء كان العالم مسطحا كما وصفه لورنس فريدمان أو ذا "حواف حادة وأخاديد عميقة" كما وصفه جابور شتاينجارت في كتابه "الحرب من أجل الثروة"، فإنه يظل عالمًا متعددا لا يتحمل الأحادية والتنميط، لا مجال فيه لنزعة التمركز أو المركزية الثقافية التي تهدف إلى فرض قالب ثقافي واحد، ولا مكان فيه لنزعة التشتت الثقافية التي تدعو للانغلاق والذوبان في المحلية، بل هو عالم يجب أن يسير على هَدي نزعة التنوع والتعددية الثقافية لأنها الأنسب لما يتميز به المظهر الثقافي للعالم من ثراء، ولكن هذا أمر بعيد المنال حاليا وربما حتى مستقبلا، لأن الأقوى دائما مولع بنشر قيمه وترويج معتقداته على أنها الثابت الذي لا يقبل النقد والتغيير، وإذا لم تتغير هذه النزعة ولم تطور المجتمعات الأخرى ميكانيزمات دفاعية ووقائية فعالة فسيكون علينا ربما أن نعيش في عالم المادة والمنفعة والربح والاستهلاك واللا ثقافات، فهل سيأتي يوم نقول فيه للقيم وداعا؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة