أخلص كمال إسماعيل لما يتقنه, نسي الزواج ثم تذكره و هو يودع أربعينياته, أنجب ولدا واحدا, ثم رحلت زوجته ليعود وحيدا بعد أن تجاوز الثمانين
قبل ظهور الإسلام كانت هناك سيدة تقوم بالطواف حول الكعبة حاملة مبخرة كبيرة, فكان أن سقطت إحدي الجمرات فأمسكت النار في كسوة الكعبة فأصابها دمار عظيم, ثم هجم السيل وكانت الكعبة علي حالتها هذه لا تتحمل قوته فتهدمت. عندما بدأت قريش تعيد بناءها اكتشفت أن ما ينقصهم بشدة الأخشاب.
في الوقت نفسه وصل خبر يقول إن سفينة رومانية محملة بشحنة من الأخشاب قد جنحت أمام جدة, و عرفوا أن صاحبها يريد أن يتخلص من هذه الحمولة, فسافر إلي هناك وفد من شباب قريش و رجعوا بالأخشاب و بنجار مصري اسمه باخوم كان علي السفينة و تشاءم من الرجوع بحرا.
شارك( باخوم المصري) في البناء و استفادوا بخبرته في النجارة و الهندسة,أثناء البناء اقترح عليهم باخوم عمل سقف للكعبة ليحميها من المطر و اقترح رفع باب الكعبة عن الأرض عدة درجات حتي لا تدخل إليها مياه السيول, استحسنت قريش الكلام فكان ما اقترحه,وعاش بعدها( باخوم المصري) يبني و يشيد منازل أهل مكة حتي مات.
ربما كانت هذه القصة حاضرة بعد مئات السنين لحظة المفاضلة بين مهندسين من جنسيات مختلفة لإختيار من يقوم بأعمال إعادة إعمار و توسعة الحرم المكي, فجعلت كفة مصر ترجح فتم اختيار مهندس مصري إسمه( محمد كمال إسماعيل) ليقوم بالمهمة.
(2)
كان عدد طلاب مدرسة الهندسة الملكية7 طلاب, لفت( كمال اسماعيل) نظر أساتذته الأجانب فتم إرساله في بعثة إلي فرنسا عاد منها يحمل الدكتوراة في( العمارة الإسلامية), ثم تسلم عمله مع نهاية الثلاثينيات في مصلحة المباني الأميرية, وهي التي كانت مسئولة عن بناء المصالح الحكومية, ومع نهاية الأربعينيات كان قد أصبح مديرا للمصلحة الأمر الذي يعني أن لا شيء سيقف في طريق حلمه بتصميم مبني أشبه بمقر فرعي للدولة يضم معظم المصالح الحكومية, حدد له تكلفة مليون و مئتا ألف جنيه و صممه علي هيئة مقدمة سفينة و أطلق عليه لاحقا اسم( مجمع التحرير).
تحول المبني إلي معلم جغرافي( حدد موقع و شكل المجمع كمركز ثقل في المكان ملامح ميدان التحرير و الشوارع المحيطة), ومعلم هندسي( بخلاف الإرتفاع و عدد الحجرات بناه علي شكل قوس وجعل له فناء داخليا كالقصور القديمة التي تتميز بها العمارة الإسلامية), و معلم اجتماعي( منذ الخمسينيات و حتي يومنا هذا يندر أن تجد عائلة مصرية لم يتردد شخص واحد منها علي المكان لقضاء مصلحة ما).
عندما تم افتتاح المجمع عام1951 كان تحفة يحكي عنها الكاتب أحمد فرهود قائلا( اعتبر العمل في المجمع نوعا من الوجاهة الاجتماعية, المنخرط فيه لابد أن يكون متأنقا, ذلك أنه ذاهب إلي مكان شديد الاحترام, وسيجلس إلي مكتب في غرفة مستقلة, معه زميل أو زميلان علي الأكثر, وإذا طلب شايا أو قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدي جاكته بيضاء وبنطالا أسود, عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل, والسعاة يرتدون بزات صفراء, ودورات المياه, شأنها شأن الممرات, بالغة النظافة, مما يدفع المرء للتصرف بتحضر).
علي هامش هذا المبني الذي أصبح راسخا في وجدان المصريين, كان كمال إسماعيل يصمم مباني مشابهة ستحتل المكانة نفسها, الأمر الذي جعل الملك فاروق يمنحه( البكوية) مع نهاية الأربعينيات, بعد إلغاء( القضاء المختلط) تم التفكير في إنشاء بيت للقضاء المصري يمكن اعتباره رمزا له قام كمال إسماعيل بتصميم( دار القضاء العالي) معتمدا علي فلسفة هيبة القضاء في المساحات و الأعمدة و المداخل, ثم قام بتصميم مبني( مصلحة التليفونات). علي هامش المباني التي شكلت ملامح مصر الحديثة إداريا, كان كمال إسماعيل مشغولا بغرامه الأول( العمارة الإسلامية), فقام بتأليف( موسوعة مساجد مصر), وهو العمل الذي اهتم به العالم كله و قام بترجمته و طباعته أكثر من مرة, دولة واحدة لم تهتم بالأمر( مصر), فاختفي الكتاب وإن ظلت نسخ قليلة منه باقية في مراكز الأبحاث, كان يفتش عن فرصة واحدة يطبق فيها ما تعلمه من البحث في فنون بناء المساجد في مصر, إلي أن عثر علي اثنتين, فصمم مسجد( صلاح الدين المنيل), ثم قام بتصميم و بناء تحفته التي ارتبط بها المصريون روحانيا( مسجد المرسي أبي العباس الإسكندرية).
(3)
في بداية الثمانينات كانت هناك نسخة من الموسوعة التي ألفها كمال إسماعيل عن تاريخ بناء المساجد في مصر تدخل إلي الديوان الملكي في السعودية, و عندما أثارت إعجاب الملك فهد أصدر قراره بتكليف هذا المهندس المصري بتولي مسئولية إعادة إعمار و توسعة الحرمين المكي و النبوي.
في لقاء تليفزيوني نادر ووحيد قال كمال إسماعيل برقة بالغة عن توسعة الحرمين: لا يجرؤ رجل ذو قلب علي الاقتراب من مشروع من هذا النوع.
كان يشغله قبل المساحات أن تتم تغذيتها بنور وهواء طبيعيين, وأن يطبق في المكان أبرز أفكار معمار المساجد القديمة( فكرة الحوش), فاخترع القباب المتحركة
و المظلات الأوتوماتيكية القائمة علي اعمدة عالية و التي تحتضن مئات الآلاف في صحن المكان, تغلب علي صعوبة زرع أساسات تتحمل مآذن لا يقل طول الواحدة عن105 أمتار بفكر أدهش العاملين, و عندما لاحظ شكوي العاملين من سخونة الأرض قال: فما بال الحجاج؟, اليوم يتعجب الحجاج من برودة الرخام الذي يسعون فوقه, كان كمال إسماعيل قد فتش حتي وجد نوعا من الرخام اليوناني( تاسوس) يمتص الرطوبة ليلا عبر مسام دقيقة ثم يقوم في النهار بإخراج ما امتصه ليلا, و كان السائد أن يكون سمك طبقة البلاط فوق أي أرض سنتيمترا واحدا لكن كمال اسماعيل قام بوضعه بسمك5 سنتيمترات, و بحثا عن جماليات اللون فكر في حرق الجرانيت ليمنحه لونا به مسحة روحانية مضيئة حيرت كثيرين, اجتهد كثيرا في إذابة الفارق بين التوسعات الجديدة و آخر توسعات حدثت قبل خمسين عاما فلا تشعر في هذا المكان المقدس بأي نشاز هندسي أو بصري,تكييفات و مظلات و قباب وواجهات و أرضيات و جراج تحت الأرض و توسعة قدرها(50 ألف ألف متر مربع في الحرم المكي) و في الحرم النبوي أضيف إلي مساحة المسجد95 ألف متر مكعب, بحيث أصبحت مساحة المسجد بعد توسعته تعادل مساحة المدينة المنورة كلها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام, ثلاثة عشر عاما من العمل المتواصل بميزانية تخطت18 مليار دولار, عاد بعدها كمال إسماعيل إلي مصر يحمل جائزة الملك فهد للعمارة, وهو يتوقع أن يحتفي به بلده, لكن أحدا لم يهتم.
(4)
أخلص كمال إسماعيل لما يتقنه, نسي الزواج ثم تذكره و هو يودع أربعينياته, أنجب ولدا واحدا, ثم رحلت زوجته ليعود وحيدا بعد أن تجاوز الثمانين, ثم زادات عزلته بعد أن رحل غالبية أصدقائه, ثم رحل في سن الخامسة و التسعين وسط جهل لا تجاهل- إعلامي و لم يشيعه و يرثيه سوي محبيه و بعض من تلاميذه الذين يعرفون قيمته.
مصادر: أرشيف قناة إقرأ مقالات( الكاتبة الراحلة: أمينة الصاوي, الكاتب:صلاح منتصر, الكاتب: أحمد فرهود).
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الأهرام وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة