فالأنظمة تعتقد أن ما زال في مقدورها أن تدير الولاية الدينية وتحتكرها، فتنشئ المؤسسات الدينية وتنفق على إدارة الشأن الديني وتعليمه
تثير المواجهة أو المشاركة مع الجماعات الدينية السياسية في الدول العربية، متوالية من الإشكاليات والأزمات لأنها في الحالتين (الإقصاء أو المشاركة) تغفل أو تفسد العقد الاجتماعي المنشئ للدولة الحديثة. والحال، أن الدول والأنظمة العربية تسلك مثل دول دينية قروسطية وفي الوقت نفسه تنشئ مؤسسات سياسية حديثة، وتدير انتخابات تشريعية وعامة مناقضة جوهرياً للسياسات الدينية التي تقدم نفسها على أساسها.
فالأنظمة تعتقد أن ما زال في مقدورها أن تدير الولاية الدينية وتحتكرها، فتنشئ المؤسسات الدينية وتنفق على إدارة الشأن الديني وتعليمه في المدارس والجامعات، وتنظر إلى الدين باعتباره أحد شؤون الدولة وولاياتها ومظهر سيادتها، وفي الوقت نفسه فإن الدول العربية والإسلامية جميعها تعتبر شرعيتها ووجودها على أساس السلطة السياسية التي تؤديها، والثقة والولاء اللذين يقدمهما المواطنون للدولة والتزامهم بالقوانين والأنظمة المتبعة.
وهكذا، فالأنظمة في صراعها مع الإسلام السياسي تجعل الصراع بين طرفين يتنازعان على الشرعية، وتتخلى الحكومات غالباً إن لم يكن دائماً في صراعها هذا عن التزاماتها القانونية تجاه مواطنيها، بل لا يعود أعضاء الجماعات المعارضة مواطنين من وجهة نظر السلطة، ويطول أمد الصراع ويترسخ ويتحول إلى انقسام اجتماعي وسياسي، وليس خلافاً قانونياً تديره المؤسسات السياسية والقضائية بمهنية من دون إخلال بالواجبات والحقوق المتبادلة بين الدولة ومواطنيها.
ربما يمنح التزام الحكومات القانوني فرصاً وملاذاً للمتطرفين أو المخالفين للحماية، لكن ذلك يفتح المجال لتفكيك الصراع وسلميته، ويتيح المجال لجميع المواطنين للاندماج في الحياة السياسية والعامة، ولا يجعل الخروج على النظام السياسي والعداء والصراع معه حالة نهائية لا رجوع عنها، إذ يفترض أن تقوم المواجهة مع الجماعات الدينية على أساس دمجها بسياسات الدولة والتزامها القانون وليس تحويلها إلى عدو تخوض معه صراعا أبدياً، ويمكنها في ذلك أن تحولها إلى جمعيات للنفع العام تعمل في المجالات الاجتماعية والثقافية بهدف التأثير في السياسات والأسواق باتجاه أهدافها المعلنة والمسجلة على أساسها، وتستخدم في ذلك وسائل وأساليب قانونية في الإعلام والدعوة والتأثير والمشاركة، وتقدم بيانات واضحة وعلنية عن العضوية والتمويل والإنفاق وتدقيق الحسابات.
وفي ذلك مجال واسع ومهم للسلطة لبناء مشاركة مهمة وفاعلة بين الحكومة والمجتمعات والشركات وملاحقة المخالفات والانتهاكات القانونية، ويتيح ذلك ملاحقة مصادر العمل وأدواته والتجمع والتمويل والإنفاق الممكن أن تقع فيه مجموعات غير مرخصة، كما أنه يفوت المجال على العمل السري، ويجعله مخالفة قانونية تستدعي المساءلة.
وهنا ستكون أمام جماعات الإسلام السياسي خيارات لتكييف أوضاعها وفق القانون والعمل بمقتضاه او الاندماج والمشاركة في الهيئات الاجتماعية القائمة، إما تقية سياسية وقانونية لحماية أنفسهم أو لتغير حقيقي وفعلي في أفكارهم وسلوكهم، ولا بأس في التزامهم القانون حتى لو كان غير حقيقي، ومرحب بالطبع بتغيرهم الفكري والأيديولوجي.
المكسب المهم في عملية التنظيم القانوني هو «العلنية»، إذ تفتح المجال للمشاركة والمسؤولية، وفي الوقت نفسه يمكن تلافي عمليات التجنيد والاجتذاب المفتوحة، كما أن أنظمة التوثيق القانونية للجمعيات وأعضائها تجعل الإقبال على هذا العمل مقصوراً على الجادين المستعدين للعمل علناً، وتجعل العمل السري غير قانوني.
ويتيح فتح المجال للعمل وفق القانون فرصاً كافية لاستيعاب اتجاهات المواطنين والمقيمين للعمل الديني والعام. أما السلبيات والأخطار المتوقعة فإن أوضحها أنها تعطي مجالاً للمتطرفين للعمل تحت غطاء قانوني، لكنها أخطار لا بد من تحمّلها والصبر عليها لأجل دفع المجتمع والأفراد باتجاه أهداف مرغوبة من غير عنف أو انقسام اجتماعي.
الذي يحدث في الصراع السياسي اليوم، أن الأنظمة السياسية تمنح حق التطرف لفئة من الجماعات وتحرمه منه جماعات أخرى، ويبقى التطرف على حاله ينمو ويزدهر وتنفق عليه الحكومات من الموارد العامة وأموال دافعي الضرائب.
*ينشر هذا المقال بالتزامن في جريدة الحياة وبوابة العين الالكترونية*
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة